قليلة هى الدراسات التى تستطيع أن تنأى بنفسها عن السجالات السياسية الحدية، كى تقدم قراءة علمية وموضوعية للواقع المجتمعى بتفاعلاته ــ قدر الامكان ــ تعين فى فهم راهن الأوضاع، ومستقبل الأحوال.
فى هذا الإطار، استمتعت بدورية «رؤى مصرية» التى تصدر عن مركز الدراسات الاجتماعية والتاريخية الذى يديره ويرأس تحرير دوريتها الشهرية الأخ الفاضل الباحث المخضرم الأصيل الدكتور هانئ رسلان. فلقد خصصت «رؤى مصرية» المعنية بالتحليلات المتخصصة حول موضوع بعينه عدد ابريل الماضى لدراسة وضعية «جماعة الإخوان المسلمين بعد 30 يونيو». ومن خلال مقاربات تسع: جدية وجديدة، لباحثين شبان، لخصت هذه الوضعية فى عبارة مكثفة هي: «انقسامات حادة ومستقبل غامض» ...لماذا؟
بشكل مباشر يمكن القول أن الجماعة على المستويات الفكرية والتنظيمية والعملية كانت بعيدة كل البعد عن الواقع المتجدد. فظلت حبيسة أفكارها التأسيسية منذ 1928. ما صبغها «بالقداسة» وحال دون انجاز أى مراجعة أو اجتهاد أو تجديد. وهو ما انعكس، بالتالي، سلبا على التنظيم فجعله كيانا مغلقا وحديديا. يتسم بهيكلية بدائية من الصعب أن تستجيب للمستجدات. وفى المحصلة كانت الممارسة: «شديدة البؤس ومتواضعة»؛ سواء عندما كانت الجماعة «محجوبة عن الشرعية»، بحسب صديقنا العزيز نبيل عبد الفتاح، أو ما بعد الانخراط فى النظام السياسى محمولة على أكتاف الوفد(1984)، فالعمل،(1987 ــ 1995) ثم منفردة فى إطار صفقة تحتية تم فيها تقاسم المشهد السياسى بين: «شبكة» الوطنى و«جماعة» الإخوان(1995 ــ 2005). وأخيرا بعد أن تسلمت، الجماعة، السلطة وفق شرعية 25 يناير التى قامت على شراكة وطنية عريضة.
فى هذا السياق، تقارب رؤى مصرية «الجماعة» بعد انحرافها عن شرعية 25 يناير بإعلانها الدستورى الصادر فى 22 نوفمبر 2012 وفض الشراكة الوطنية العريضة واقتصارها على ظهير سياسى قوامه جماعات العنف فقط.
ويبدأ، أولا: أحمد زغلول شلاطة يعرض «للصراع على التنظيم بعد 30 يونيو». فيرصد الجدل الذى دار فى داخل الجماعة بين الأجيال، وبين الدوائر العليا والمتوسطة حول «سلمية وعنفب» الجماعة. والضغط فى اتجاه إعادة هيكلة الجماعة وهو ما يفصله الباحث بدقة. إلا أن ما يخلص إليه هو أن التراوحات الحادة لم تزل حاكمة ما يؤدى بالجماعة إلى «تشرذم تنظيمي» مازال مستمرا.
ويرصد، ثانيا: محمد حسن القاضي؛ ما طرأ من تحول قطاعات من التنظيمات ذات التوجهات الدينية نحو تبنى العنف كوسيلة لتحقيق الأهداف بعد أن كان العنف ذو الطابع الأيديولوجى قد تراجع فى مرحلة سابقة إثر القيام بمراجعات. ويحاول أن يجيب الباحث عن سبب ذلك بما عبر عنه «بتغذية العنف الكامن» لدى الجماعات بفعل الأوضاع الداخلية والإقليمية غير المستقرة وخاصة فى العراق وسوريا.
ويلتقط، ثالثا: محمد بشندي، لقطة حول «المسارات المتقاطعة: مقارنة خطاب الإخوان وخطابى تنظيمى القاعدة والدولة الإسلامية». حيث ينطلق الباحث من فرضية أن هناك اتفاقا بين التنظيمات الثلاثة حول الأفكار الكبرى فيما يتعلق بفقه العنف. وان اختلافهم يتصل بالسياسات لا التصورات الكبرى النصية. وأن هناك رؤية مشتركة فيما بينهم «استعلائية للذات». وازدراء الديمقراطية إما بتكفيرها كنظام أو استغلالها مرحليا دون الإيمان بها، واتفقت على أولوية إقامة «دولة دينية تدخلية كلية الجبروت».
ويطرح، رابعا: عمرو عبد الحافظ؛ سؤالا «هل كان فشل تجربة حكم الجماعة حتميا؟». ويجيب الباحث: «لقد كان بحر السياسة المصرية عقب تنحى مبارك بحرا هائجا متلاطم الأمواج، ولم يكن الإخوان ذلك السباح الماهر الذى يستطيع التعامل معه، وكانوا ذوى وزن ثقيل ايديولوجيا وتاريخيا بدرجة لم تمنحهم قدرة على مقاومة الأمواج العاتية، فكان السقوط فى قاع ذلك البحر وفق هذه الموازين حتميا». ويسرد الباحث الكثير من التفاصيل التى تؤكد ما خلص إليه.
ويختبر، خامسا: مصطفى هاشم؛ «خيارات الإخوان لمواجهة الواقع الصعب: هل ينحازون للعنف أم المصالحة». يتابع الباحث حركية أعضاء الجماعة وبخاصة كثير من المحبوسين ورغبتهم فى العفو واستعدادهم للتوبة والمراجعات. إلا أن هناك فئة لا تقبل بهذا. وفى ظل التراوح بين الخيارين لم يزل هناك صراع تنظيمى على قيادة الجماعة بين فصيلين. حيث كل فصيل صار له مكتبه الإدارى وقنواته الإعلامية. فى ظل عدم اعتراف متبادل. ويدلل على أن انقساما حادا يسود الجماعة فى الوقت الراهن. ومن ثم لا يمكن أن تتحقق المصالحة. فالمصالحة ليست قرارا منفردا وإنما هو قرار يجب أن يكون محل توافق بين الدولة والمجتمع أولا فالجماعة. ويؤكد الباحث فى دراسته على ذلك.
وبعد، ونظرا لأهمية الرؤى المطروحة وجديتها وتنوع المقاربات كما لاحظنا فى ما تم عرضه بالفعل...فإننا حريصون على عرض كامل الرؤى التسع المطروحة. ولأن المساحة المتاحة لن تسمح لنا بعرض ما تبقى من أوراق بما تثيره من تساؤلات معتبرة. تناقشها بجدية ووطنية. وبروح علمية متجردة... فإننا نستكمل عرض الرؤى فى الأسبوع القادم...