الكتل الجديدة الصاعدة.. (2) أربع قوى اجتماعية مقاومة

تابعت بعناية ردود فعل الشارع الأوروبى على نتائج الانتخابات الفرنسية. والمتأمل فى كلمات الناس تعليقا على انطباعاتهم عن نتائج الانتخابات الفرنسية سوف يعرف تحديدا أى لحظة تعيشها الإنسانية اليوم.

قال أحدهم وهو رجل فى منتصف العمر: «نحن أردنا وجها طازجا Fresh »؛ وقالت سيدة: «نجاح حركة إلى الأمام تعنى أن زمنا كاملا بأشخاصه ومؤسساته بات خلفنا». وقال أحد الشباب: «لقد مللنا كل شيء ولابد من عهد جديد»...



إجابات ثلاث دالة، وتلخص طبيعة المشهد السياسى الاجتماعى الجديد الآخذ فى التشكل منذ بدأت الحراكات الميدانية فى العالم كله دون استثناء. حيث ظهرت حركات الاحتجاج فى صورتها المحدثة خارج الأحزاب التقليدية وأشكال التنظيم التاريخية من: روابط، واتحادات، ونقابات. وذلك من خلال ما بات يعرف «بالحركة الميدانية أو الشوارعية» Street movements...

ويشير المسح الدراسى الذى تناول هذه الظاهرة إلى عدة ملاحظات هي: أولا: أنها ظاهرة امتدت إلى كل دول العالم دون استثناء. ثانيا: اختلفت قدرة دول العالم فى استيعاب الظاهرة بحسب درجة التطور الاجتماعى والسياسى لهذه الدول. فالدول الغنية استطاعت أن تستوعب ظاهرة الحركات الصاعدة فى العملية الديمقراطية مثل: بوديموس الإسبانية، والخمس نجوم الإيطالية، وإلى الأمام الفرنسية،...، إلخ. أما الدول المتوسطة الغنى والفقيرة فلم تزل غير قادرة على حل شفرة الحراك الجديد. ثالثا: إن الدافع لهذا الحراك فى دول العالم: أغناها وأفقرها، هو تبلور حالة من الرفض «المواطني» لاحتكار السلطة والثروة من قبل فئة قليلة. وتكلس الحياة السياسية فى إطار أشخاص بعينهم، ومؤسسات فقدت صلاحيتها وحيويتها، وسياسات فاشلة.

والسؤال ماالمحركات الدافعة للحراك؟

رصد باحثون معتبرون فى العامين الأخيرين طبيعة التحرك الجماهيرى فى شكل كتل مجتمعية. حيث تتكون كل كتلة من مجموعة من الطبقات والشرائح. ويمكن أن نرصد الكتل المجتمعية الجديدة فى أربع كتل وسوف نقدم كل كتلة بعنوان نقترحه يسهل تداوله. وذلك كما يلي:

أولا: كتلة «معذبو الأرض»؛ وهى الكتلة التى تضم الطبقات الأكثر حرمانا واستبعادا وتهميشا فى الجسم الاجتماعي. وهى حاضرة فى جميع الدول دون استثناء مع اختلاف النسب. وتضم هذه الكتلة: الفلاحين الأجراء، والعمالة الموسمية، والشباب العاطل، وطبقة البريكاريات: «المنبوذين». إنها القوة الاجتماعية الحرجة التى تنطلق من خلالها الانفجارات الاجتماعية وعدم الاستقرار. وهى كتلة تكافح من أجل إيجاد مورد مياه وكهرباء كما تقاوم كل محاولات الإخلاء. وتبقى وقودا للتخريب والشغب. إنها كتلة سكانية بائسة تنشر فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بنسب تقترب من 30%. وثبت أنها موجودة فى دول متقدمة بنسب أقل تقترب من 15% كما هو الحال فى بريطانيا.

ثانيا: كتلة «البدائيون»؛ ويقصد بها التكتلات الاجتماعية الخليط بين أنها لم تزل تمارس أنواعا من الأعمال الأولية ما قبل رأسمالية وبأشكال قديمة غير حداثية. وأنها تعبر عن تكوين اجتماعى أولى عرقى وثقافي. وأخطر ما يترتب على ذلك أن يتشكل مجتمع بشرى حول هذا الاقتصاد حيث يستشرى التخلف بكل أبعاده من جهة. إلا أن هذه الكتل تكون مقاومة بشدة لأى تحديث. كما أنها تلعب دورا حمائيا لحقوق من يلوذ بها. لذا فهى كتلة تحمل طبيعة متناقضة: مستكينة ومقاومة متى لزم الأمر.

ثالثا: «كتلة الياقات البيضاء»؛ وهى الكتلة التى نمت شرائحها مع نمو الرأسمالية المالية. فعناصرها تلقت تعليمها فى ظل سيادة سياسات الليبرالية الجديدة. حيث أصبحت مناهج التعليم فى خدمة السوق. إنهم من درسوا: علوم الإدارة، والـ IT، وتجارة «انجليش» وهندسة من المجتمعات المغلقة. إنهم جيل العولمة أو الشباب الرقمى إذا جاز التعبير. وهى الكتلة التى من أجل الشراكة فى الثروة والسلطة تتحرك احتجاجا. وهى اصلاحية فى جوهرها إلا أن احتجاجها يأخذ شكلا ميدانيا ويستدعى معه كتلا أخرى من مستويات اجتماعية أدنى «ككتلة معذبو الأرض». وهو ما تجلى فى حراكات 2011 وما بعدها فى إسبانيا، وتشيلي، وتركيا، والبرازيل، ومصر، وتونس، واليونان. وما أن تتحقق بعض المطالب تفترق المصالح.

رابعا:«المبخوسون»؛انهم العاملون بأجر.وهى التى تتبع فى صراعها واحتجاجها »الجدل التاريخي«لقيمة العمل والجهد المبذول المنظومة الرأسمالية. وقد كان نمط احتجاجها الرئيسى يقوم على تنظيم نفسها من خلال النقابات والاتحادات والروابط. إلا أن الإضعاف المتوالى لهذه النوعية من التنظيمات فى كثير من الدول: المتقدمة والغنية. كذلك تعثر تأسيس أحزاب عمالية فى نيجيريا وإندونيسيا قد جعلها تلجأ إلى الاحتجاج عبر الميادين.ولدينا نماذج متنوعة لهذه الاحتجاجات جرت فى الصين، وبنجلاديش، وفرنسا واندونيسيا،...،إلخ.

وبعد، هذه هى الكتل الجديدة الصاعدة. جديدة من حيث إنها تلعب دورا حاضنا للطبقات والشرائح الاجتماعية وللثقافات والمصالح المتنوعة. ودورا احتجاجيا وتغييريا طالما ظلت الأبنية القائمة على تكلسها.ما يعنى تراجع اليمين واليسار والحراك الطبقى بمعناه التاريخى ما يجعل التحرك عبر الكتل هو العامل الحاسم للتغيير حتى إشعار آخر.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern