«الكتل الجديدة»الصاعدة..(1) تراجع اليمين واليسار

«الكتل الجديدة» «NewMasses»؛ هو الوصف الذى استقرت عليه كوكبة من الباحثين السياسيين لشرح حركية القوى الاجتماعية البازغة التى انطلقت منذ مطلع التسعينيات فى البلقان وشرق أوروبا: زغرب، وسراييفو، وصوفيا، وبوخارست، وأوكرانيا. ثم فى أمريكا اللاتينية: البرازيل، وتشيلي، وفنزويلا، وبوليفيا،...،إلخ. وكذلك المكسيك فى شمال أمريكا. وفى آسيا: الهند، وتايلاند. ولم تقتصر حركية القوى الاجتماعية على الدول الأقل تنمية بل امتدت إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا وإسبانيا، وفرنسا،...،إلخ.



وسر الاهتمام بهذه القوى هو تنامى حيويتها، وتعدد عناصر تحالفاتها، وتعقد تشكيلاتها خاصة بعد الأزمة المالية الأعظم فى تاريخ البشرية التى وقعت فى 2008. والأهم كيف أنها، رويدا رويدا، حلت محل التقسيم السياسي(الفكري) الذى عرفته المجتمعات تاريخيا. وأقصد به التقسيم إلي: يمين ويسار ووسط وتنويعاته المختلفة التى عرفها التطور السياسى عقب الحرب العالمية الثانية. وهو التقسيم الذى كان يحمل استجابة سياسية للطبقات الاجتماعية المختلفة. حيث لوحظ تقدم ما بات يوصف «بالكتل الجديدة» المجتمعية ((Societal؛ على حساب التقسيم السياسى والتصنيف الطبقي.

فمن خلال المسح المعرفى الكونى تبين أن دول العالم فى القارات الست ـــ بحسب أحد الباحثين المعتبرين ـــ قد تبلورت فيها ـــ بدرجة او أخرى قوى اجتماعية تميل إلى الانتظام «ككتلة» مجتمعية أكثر من أن تنتظم فى حزب سياسي. حيث «الكتلة» تتحرك فى فضاء سياسى ومدنى حر لا يمتثل إلى قيود مؤسسية ولا يخضع إلى شروط قانونية أو اجتماعية.كما أن «الكتلة» المجتمعية مفتوحة العضوية، وقابلة لاستيعاب عناصر سياسية ومدنية وثقافية عديدة. أو بلغة أخري، كتلة أقرب لتكون تحالفا عريضا متعدد ألوان الطيف الطبقي. ويعنى ما سبق أن «الكتل الجديدة» هى كتل قد ضاقت بالتشكيلات السياسية المتعارف عليها والمستقرة فى المجال السياسي: فكرا وممارسة منذ الحرب العالمية الثانية. أخذا فى الاعتبار أن هذه الكتل قد تدعم أحزابا موجودة ولكن دون أن تنخرط فى عضويتها. وذلك بالتصويت لها أو التحالف معها...والسؤال ما سر هذا التحول أو بالأحرى ما سر هذه «الكتل الجديدة»؟

تشير الدراسة العابرة للقارات، أن ما يجمع بين هذه «الكتل الجديدة»؛ فى شتى أنحاء العالم هو «الغضب الشعبي» «Popular Anger»؛الغضب من: الفساد، والاستبداد، والاستغلال.وتحديدا «تمركز صناعة القرار، والثروة، والامتيازات» فى أيدى قلة وفى إطار شبكات مغلقة.وفى العموم من تداعيات الآثار الكارثية لسياسات الليبرالية الجديدة.

وتتراوح درجة الغضب بطبيعة الحال من دولة لأخرى بحسب التطور الاجتماعى ولكن لم تنج دولة من هذا الغضب. وفى المحصلة باتت هذه الكتل هى المحرك الأساسى للحياة السياسية ولأحزابها القديمة سواء: بالانخراط فى السياسة كحركات سياسية، أو بدعم الأحزاب القائمة من خارجها. ما ترتب عليه من تجاوز تحليل ما يجرى بين الأحزاب باعتباره صراعا نمطيا بين اليمين واليسار والقوميين والفاشيين إلى تحليل أعمق للقاعدة الاجتماعية للكتل الجديدة وطبيعة العناصر المكونة لها. وما تمثله من حيوية بازغة.

فالتحليل «النمطى للحالة الحزبية الظاهرة» ما هو إلا تحليل من الماضي. فلا الأحزاب فى أفضل حالاتها. ولا الحركية السياسية الراهنة تعبير عن التنافسية التاريخية بين اليمين واليسار والوسط. وما تحقيق الأحزاب الهامشية على انتصارات ـــ ولو كانت جزئية ومحدودة ــــ إلا تعبير عن أن هناك سياقا جديدا قيد التبلور قوامه حراك الكتل الجديدة المجتمعية الرافضة لأحزاب ما بعد الحرب العالمية الثانية ونخبها أصلا وما نفذته من سياسات أدت إلى اختلالات غير مسبوقة. وهو ما ينبغى الالتفات إليه وتحليله. ولعل الحالة الفرنسية الراهنة تعبر عن ما نحاول تفسيره. فالأمر يتجاوز الإحياء القومي، والحضور الفاشي، والنزوع القومي، إلى الواقع الذى أدى إلى هذا التكثيف الدال. مع التذكير انه فى الحالتين الإيطالية والإسبانية اختارت الكتل الجديدة أن تخوض الانتخابات بنفسها كحركات لرفضها الأحزاب التاريخية الفاشلة والفاسدة فى نظرها(حركة الخمس نجوم الإيطالية وحركة بوديموس الإسبانية)، بفعل التواطؤ مع «الرأسمالية الجامحة»«Unbridled Capitalism»؛ ما أدى إلى «اللامساواة» فى شتى الأبعاد والمستويات. ومن ثم غياب العدالة.

والمفارقة أن الدول التى لم تعرف نفس الدرجة من التطور السياسى التى عرفته أوروبا وغيرها. نجدها وقد تبلورت فيها نفس الظاهرة أى : «الكتل الجديدة» التى باتت ـــ وبصورة واضحة بحسب كثير من الباحثين ـــ تحتل الواجهة السياسية مع ضعف أو غياب الأحزاب.كتل يجمع بينها رفض ما هو قائم من هياكل بطريركية: اجتماعية، وثقافية، وسياسية، واقتصادية.ورفض كل أشكال التفاوت. والضغط نحو تحسين الأحوال المعيشية بشتى الطرق نتيجة للعولمة...

فى هذا المقام تتحرك «الكتل الجديدة» متجاوزة مفاهيم ورؤى اليمين واليسار إلى ما هو أعمق ويمثل لب الصراع المجتمعى ألا وهو: «التفاوت الحاد بين القلة الثروية والأغلبية». الأغلبية التى تعددت شرائحها الاجتماعية. ومن ثم تقاطعت فى مواقفها، وتشكيلاتها، وتبلورت فى كتل مجتمعية أربع: جديدة وحية... نفصلها فى مقال الأسبوع القادم...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern