العنف وخطورة الثقافة المجتمعية المانعة

العنف يبدأ فكرا؛ مقولة طرحها أستاذنا ناظر مدرسة حب الوطن وليم سليمان قلادة، نهاية الثمانينيات. أتذكرها دوما عندما تثار النقاشات التى باتت موسمية مع تكرار العنف...



وكان يقصد بها، أن ممارسى العنف لا يمكن أن يصلوا إلى الحالة «العُنفية» ما لم تكن هناك منظومة فكرية كاملة تحكم هذا السلوك وتدفع إلى ممارسته. تتسم هذه المنظومة بما يلي: أولا: الانقطاع عن غير المتماثلين ومع المجتمع وقيمه والسياق الدولتي (نسبة إلى دولة). ثانيا: احتكار الحقيقة؛ بديلا عن الحوار، والشراكة، والتواصل المجتمعى مع الآخرين، ودعم الممارسة الديمقراطية والمدنية وقواعدها السلمية. ثالثا: ممارسة الإكراه على دوائر الحركة المجتمعية التى يتحركون فيها والتى تكون أسفل الجسم الاجتماعى القائم. رابعا: الاستئثار المطلق بحق العقاب لكل من تسول له نفسه أن يخالف ما جاء فى منظومة العنف الفكرية: بالقول أو بالفعل.ومن ثم خامسا: إقامة سلطة الغلبة.

وأن هذه المنظومة لها مصادرها. حيث هناك من يحفظها عن السلف ويعيد إنتاجها للخلف على مستويين. الأول: لفئة «مختارة» بعناية رؤى فيها قدرتها على أن تكون من «حراس» هذه المنظومة. كذلك على تنفيذ ما تؤتمر بها وفق منظومة الفكر العنفية دون نقاش. تعانى بالأساس من الواقع الاقتصادى والاجتماعى والسياسى والثقافي. ومن الحرمان وانعدام الفرص. والقدرة على التعبير والتنظيم. الثاني: طرح، ونثر، وبذر عناصر هذه المنظومة عبر وسائل التواصل الحديثة المتنوعة بكثافة كبيرة. بحيث يسود مضمون هذه المنظومة الفكرية. ومع مرور الوقت تختفى أو تتراجع الأفكار المعتدلة محل الاجماع. أو تدخل فى عراك حول شرعيتها بفعل التشكيك الدائم فيها وفى مصادرها. وهكذا يكون المستوى الأول هدفه التجنيد خاصة الكتل المتعلمة تعليما متوسطا من أعضاء الطبقة الوسطى الدنيا، واعتبارهم القاعدة الاجتماعية للدولة الجديدة.أما المستوى الثانى فالمقصود بهم تحييدهم أو استمالتهم إلى معسكر جماعة العنف. وبمجرد الوقوع فى فخ «الجدال المربك». الذى سرعان ما يتحول إلى «سجال مدمر»؛ بحضور العنف المادى الأسود...حيث ينتصر العنف لثقافة: نفى الآخر على حساب الحياة المشتركة؛ و تدمير الجسور بينهم وبين الآخرين المغايرين؛وهدم كل ما هو قائم/قديم تعددى لحساب كل ما هو أحادي...

وفق شرعية خماسية العناصر: الانقطاع، والاحتكار، والإكراه، والاستئثار،والغلبة...

فى سياق التأسيس البديل لما هو قائم، ولحين تحققه. ووفق الشرعية الخماسية العناصر. تبلور ـــ بنعومة ـــ ما يمكن أن نطلق عليه:الثقافة المجتمعية المانعة. وهو أمر لم ننتبه لخطورته وخبثه...كيف؟

فمع مرور الوقت، وتطبيق العناصر الخماسية لشرعية العنف، تم نسج ثقافة تحول دون تطبيق القانون. وبالطبع لا تعترف أو تعرف الدستور من الأصل كبوصلة حاكمة لحركة المواطنين على اختلافهم. كما تعوق حضور الدولة ومؤسساتهاعلى المستويين: الرمزى والمادي. وبات القبول بشرعية «العرفي» أمرا طبيعيا ومشروعا.

ووقع الكثيرون فى الفخ. حيث العرفى لم يكن إلا تغطية لتمرير «سلطة الغلبة». كان البعض يبررون تطبيق العرفى من منطلق أنه لا ضرر من القبول بالاحتكام بالأعراف. اعترافا بالخصوصية الثقافية للبيئة التى تحتكم إليه فى ظروف معينة وفى وقائع بعينها. إلا أن ما يمكن أن يقبل فى حالات محددة لها ظروفها وسياقها أصبح هو الشائع والسائد. ورويدا رويدا حل العرفى (الذى هو فى الحقيقة سلطة الغلبة لشرعية العنف)محل الدولة بقانونها ومؤسساتها ومجتمعها. ولم ننتبه أن القبول بذلك إنما يعني: «التنازل الطوعي» عن شرعية الدولة ومرجعية القانون الذى تم التوافق عليه من قبل المواطنين لصالح شرعة جماعة العنف...

والنتيجة، بات ما هو محللا بالدستور والقانون وتوافق غالبية المجتمع اللاعنفي، محرما وفق العرف، أو بالأحرى سلطة الغلبة لجماعة العنف...كما أصبح المجتمع(بمواطنيه على اختلافهم) ـــ بدرجة أو أخرى ـــ أسرى اللحظة التاريخية: قلقا، ورفضا، وارتباكا،...،إلخ. خاصة مع التحول النوعى للعنف: أولا جغرافي: حيث انتقل من الأطراف الحدودية والفقيرة إلى المراكز والحواضر. وثانيا: أيديولوجيا: حيث بالمطلق: الدولة كافرة. وغير المسلمين مرتدون وصليبيون(ليسوا اهل ذمة أو نصارى). والمجتمع مشكوك فى إيمانهم. إنه كيان «مُشرك» إجمالا. وثالثا: الانتقال من مرحلة العمليات الجزئية البسيطة الأولية التسليح إلى المركبة والشاملة...والمراجع للرسائل الإعلامية عبر وسائل التواصل الاجتماعى سوف يلحظ ما سبق. ناهيك عن براعة صياغة الرسائل الإعلامية والتى تحتاج إلى دراسة متأنية. بالإضافة لحسن استخدام التقنيات الرقمية...

إن الثقافة المجتمعية المانعة؛ أخطر ما نجحت فيه جماعات العنف. حيث عزلتنا عن تاريخنا، ونضالنا التاريخى المشترك فى مواجهة الاستبداد والاستغلال. وعن عمق الخبرة المصرية. وإدراك مركبها الحضارى الذى لا تستقيم فاعليته دون حضور عناصره المتنوعة دون النظر للأوزان النسبية.وعن فقهنا/لاهوتنا ذى السقف العالي. وعن العصر ومستجداته والمساهمة الفاعلة فيه. وعن القدرة على التحديث ومواكبة الحداثة والإبداع...

لابد من العمل بدأب على تفكيك شفرة الثقافة المجتمعية المانعة المنتجة لمتفجرات العنف المادية...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern