شبرا: تحولات المكان والبشر

«شخصية الإقليم (المكان) كشخصية الفرد يمكن أن تنمو وأن تتطور وأن تتدهور..». هكذا يقول جمال حمدان فى كتابه العمدة «شخصية مصر: دراسة فى عبقرية المكان».
ويدحض جمال حمدان ـــ بهذه المقولة ـــ التصور القائل بأن «المكان» ما هو إلا مساحة جغرافية محايدة نتحرك فيها...مساحة تتشكل ملامحها بمعزل عن الإنسان الذى يُقيم المكان ويعيش فيه. حيث تتأثر هذه المساحة: إيجابا وسلبا، وفق ما يطرأ على الإنسان من تغيرات: صعودا وهبوطا...وهو ما أثبتته الكثير من الدراسات والأعمال الأدبية التى اتخذت من «المكان» موضوعا للحديث والمعالجة. فمن خلال تشريح بنية المكان يمكن أن نستدل على الكثير من الحقائق والمعلومات التى تعكس «تحولات» البشر فى هذا المكان، ولماذا... ومن ثم الوطن.



لذا عنى العقل الانسانى بأن يرصد هذه العلاقة من زوايا عدة. فرأينا سيريل فوكس يكتب: «شخصية بريطانيا». ولافيس يحلل: «شخصية فرنسا». ومحمد شفيق غربال يبدع في: «تكوين مصر». كما عنى الأدب أيضا فى التعاطى مع المكان من خلال شخوص حية تلعب أدوارا فاعلة ومحورية فى المكان وبالمكان مثلما جاء في: ابداع نجيب محفوظ العظيم فى ثلاثية: بين القصرين وقصر الشوق والسكرية. ما أسس لكتابات أصبح المكان فيها بطلا ومحورا للأحداث. فجاءت إبداعات تناولت: الإسكندرية كتبها إدوار الخراط، وابراهيم عبدالمجيد. وهليوبوليس (عن حى مصر الجديدة) لمى التلمساني، وشبرا نعيم صبري،...، إلخ. وفى الأدب العربى نجد خالد زيادة يحدثنا عن طرابلس فى يوم الجمعة، يوم الأحد. وفى الأدب العالمى نجد: لندن ديكنز، وباريس البؤساء لهوجو،...،إلخ.

إذن فإن العلاقة بين الإنسان والمكان وطيدة ووثيقة.

فى هذا السياق، صدر للمؤرخ الكبير الدكتور محمد عفيفى كتابا عن «شبرا: إسكندرية صغيرة فى القاهرة»؛ فى ديسمبر الماضى عن المجلس الأعلى للثقافة. وقد أحسن وأبدع فى اختياره لحى شبرا وذلك لسببين هما: الأول: إحياء الاهتمام بالمقاربة العلمية التاريخية «للمكان». الثاني: اختياره لحى شبرا ليكون محلا للدراسة... فما أهمية هذا الاختيار؟

«شبرا...هذا الحى العجيب»؛ بهذا الوصف قدم عفيفى كتابه. ومصدر العجب و«الإعجاب» فى ظنى أنه حى «التنوع»؛ بامتياز. التنوع الذى كان سمة الدولة الحديثة فى مصر. دولة محمد علي. لذا وبحسب التأصيل التاريخى الذى ورد فى الكتاب «فإن النشأة الحقيقية لشبرا، تبدأ كما بدأت الدولة الحديثة فى مصر مع عصر محمد علي». حملت النشأة تخطيطا عمرانيا أرستقراطيا. حيث ارادها محمد على أقرب إلى «الرابط» بين قصره النهري/الريفى فى شبرا الخيمة وبين القاهرة. حيث يستطيع المواطن أن ينتقل إلى باقى أحيائها من جهة وإلى محطة السكة الحديد حيث الانتقال إلى عموم القطر من جهة أخري. ولذلك «كان شارع شبرا من أطول شوارع القاهرة وأكثرها استقامة؛ لأنه شق بإرادة من محمد علي». وكان يحد هذا الجانب من جهة نهر النيل. ومن جانب آخر الخضرة. وبدأ الحى كمنتجع للأرستقراطية المصرية. ومع الوقت أصبحت هذه السرايات مدارس عامة رفيعة المستوى التعليمي. ما شجع كثيرين من أبناء الطبقة الوسطى المصرية والجنسيات الأخرى من: أرمن، ويهود، وإيطاليين، ويونانيين، بالزحف إليها.

فمع تباطؤ نمو الانتاج الزراعى فى الريف وقت الحرب العالمية الأولى تزايدت الهجرة إلى القاهرة فكانت شبرا هى الملاذ الأول للوافدين من الريف مع الربع الأول من القرن العشرين. كذلك مع تشبع أحياء القاهرة القديمة بالسكان هجر إليها الكثير من القاهريين القدامي. وهكذا باتت «شبرا» جاذبة للمهاجرين. وما شجع الهجرة إلى شبرا والسكن فيها هو طبيعتها العمرانية المنضبطة. وقربها من السكة الحديد من جهة. وامتداد الترام إليها مطلع القرن من جهة أخري.

المحصلة أن شبرا بتطورها العمرانى أصبحت أقرب إلى مدينة «الإسكندرية» أو إلى عالم البحر المتوسط، من حيث الملامح العمرانية والتركيبة السكانية. إلا أن «شبرا: إسكندرية الصغيرة»؛ لم تستطع الصمود أمام الترييف الدائم، وهجرة سكانها من أبناء الطبقة الوسطى إلى أحياء أحدث مثل مصر الجديدة. وأخيرا الخروج المتوالى للأجانب...وبالأخير وقوع «شبرا» فى أسر الغزو الفكرى الأحادي.

شبرا، كما قدمها محمد عفيفي، تعطينا درسا فى معنى المكان. فشبرا عبر البشر هي: المساجد والكنائس، وسوق الخضار، والصحف المحلية، واستوديوهات التصوير السينمائي، والسينمات المتنوعة التى كانت ترتادها الأسرة، ومسارح روض الفرج، والقمص سرجيوس، والشيخ أبو زهرة، والمدارس، والقصور، والتنظيمات السرية، . شبرا: بركات، وبليغ حمدي، وداليدا، وابراهيم ناجي، وصلاح جاهين، ورءوف عباس،...،إلخ.

يفتح الحديث عن المكان الكثير من التأمل...فالتحولات التى تطرأ على المكان لا تنفصل عما طال البشر بفعل الاقتصاد والسياسة. ومن ثم التفاعلات بينهم وأثر ذلك على المكان...وكيف يتشكل الزمن فى وجداننا وذاكرتنا ..وشبرا هى تعبير نموذجى لكل ما سبق...وأظن أن الأمر يستحق من مؤرخنا محمد عفيفى جزءا ثانيا وثالثا عن شبرا...كما يشجع الحديث عن أحياء وأمكنة أخري...وما فعله البشر فيها...وما فعلته بهم...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern