لفت نظرى مبكرا، فى حالتنا المصرية والعربية، أن أغلب من يكونون فى موقع الإدارة لا يهتمون كثيرا بالرؤية الفكرية الحاكمة للعمل التى تحدد توجهاته، وأهدافه. فالمهم أن تستمر ماكينة العمل فى الدوران. وإذا ما تعثرت أو تعطلت يكون الهم الأكبر هو تدعيم من يدير العمل بالأفكار العملية فلا وقت للفلسفة أو التفكير فى أسباب التعطل، أو منع تكرار حدوثه..إلخ.
وظنى أن ما يميز «الآخرين» عنا هو أن هناك جهدا دائما لفهم اللحظة التاريخية وما تحمل من مستجدات، وتحولات. فلا يوجد واقع ساكن. فالواقع دائم التغير. والسكون ليس له وجود إلا فى أذهان الكسالي. وعليه لا يمكن أن تجد مسئولا من هؤلاء «الآخرين» إلا ويقدم «ورقة مفهومية» قبل الإقدام على أى عمل تنفيذي. كذلك يستبق تقاريره الدورية بتقدير موقف نظرى قبل أى حديث كمي.
ولعل التقرير الذى قدمه وزير خارجية ألمانيا الأسبق فى مؤتمر الأمن بميونيخ، والرئيس الحالى فى دورته ال 53 والذى أشرنا له فى مقالنا الأسبوع قبل الماضى وركزنا فيه على الجانب السياسى والذى يتعلق ــ بالأساس ـــ بمستقبل الغرب، يقدم نموذجا لكيفية الربط بين السياسة ومعنى اللحظة التاريخية فى عمقها الفلسفي. فالأمر يتعلق بمستقبل الغرب والنظام الدولى قيد التشكل. لذا لا يمكن الحديث عما سبق دون فهم جديد اللحظة التاريخية. لذا جاءت الورقة الرئيسية للمؤتمر(90 صفحة) تحمل العنوان التالي: «ما بعد الحقيقة، ما بعد الغرب، ما بعد النظام؟»...وكنا قد ركزنا على الجانب السياسى المستقبلى للغرب والنظام الدولي. واليوم نركز حديثنا على المدخل الفلسفى لرؤية مؤتمر ميونيخ للأمن. أى على مصطلح: «ما بعد الحقيقة» متى بدأ استخدامه؟ وماذا يعني؟ وما أهميته؟ وما هى تداعياته؟...
أولا:يمكن اعتبار المفكر الأمريكى رالف كييس هو أول من صاغ مفردة «ما بعد الحقيقة»، فى كتابه: عصر ما بعد الحقيقة: اللا أمانة، والخداع فى الحياة المعاصرة ـــ2004. راصدا كيف أصبح «الكذب» لا «الحقيقة» أكثر قبولا فى حياة الأمريكيين. وكيف أن الحقيقة والكذبة باتتا متشابكتين فى ظل التدفق المعلوماتى الكبير الذى يصعب فرزه وتنقيته. وعليه تلتبس الحدود بين الحقيقى وما هو غير ذلك. وبين النزيه والفاسد. وبين العاقل والسفيه. وبين المحترم وغير المحترم. فلقد صار صاحب المصلحة فى استمرارية الفساد يتحدث مقاوما الفساد. ويشير هارى فرانكفورت فى دراسته البديعة: «الهراء» ــــ 2006 ـــ وكأنه كان يستشرف قدوم الظاهرة الترامبية ـــ أن السياسى فى زمن ما بعد الحقيقة بات يستطيع أن «يستف» الحقائق والوقائع كما يشاء فى لحظة ما. كما يستطيع أن يعيد «تستيفها» فى لحظة أخري. ما يدفع الجمهور إلى افتقاد القدرة على تحديد الصواب من الخطأ فيما يقدم له(يمكن مراجعة نص الكترونى لكين ويلبر: ترامب وعالم ما بعد الحقيقة الصادر منذ شهر). وتستفحل المسألة مع وجود مؤيدين لحقيقة ما (والتى فى الأصل قد تكون كذبة) ولكن مع عدم الحسم تصير حقيقة. كذلك وجود مؤيدين للحقيقة المضادة. ويتفاقم الأمر مع تنامى تلاعب النخبة السياسية بعقول ومشاعر المواطنين. ويفاقم من الأمر هو سطوة نخبة ما بعد الحقيقة على كثير من مقاليد الأمور فى العديد من المجالات.
ثانيا: فى ضوء ما سبق يمكن اعتبار «ما بعد الحقيقة»؛ هى لحظة تاريخية يتم تمرير أى شيء فيها. فليس بالضرورة أن يكون كل ما يقال كذبا، بل قد يكون حقائق جزئية تخفى ما هو أهم. ما ينتج حالة من اللايقين. ذلك لأنه لا يوجد توافق على القيم الأساسية التى تزيد من التماسك الوطنى والاجتماعى والثقافي. لذا يحدث العكس حيث تتفكك المجتمعات وتتحلل.
ثالثا: فى هذا السياق، طرح وزير خارجية ألمانيا الأسبق رؤيته الفلسفية قبل أن يطرح تصوراته السياسية والعملية لمستقبل الغرب والنظام العالمى الجديد. حيث أقر بأن هناك «دنيا جديدة» تتشكل تقوم على حقيقة «سائلة» إذا ما استعرنا تعبير عالم الاجتماع البولندى باومان. وإن من تداعياتها الخطيرة ما يلي: أولا: حالة حراكية احتجاجية جماهيرية ــــ دائمة مدعومة بالتقنيات الشبكية ــــ ستسلك من ضمن ما تسلك سلوكيات «ما بعد الحقيقة» تشبها بالنخبة المهيمنة والتى ثبت فشلها..سلوك يمثل أداة مقاومة لهذه النخب الفاسدة، والمؤسسات القابضة عليها منذ الحرب العالمية الثانية، وسياساتها الفاشلة غير المواكبة للعصر. وهى حركة يتقاسمها من وجهة نظر تقرير مؤتمر ميونيخ للأمن كل من: الشعبويين ومناهضى العولمة.(كنا أشرنا إلى تقسيم آخر فى مقالاتنا عن الحركات الجماهيرية البازغة فى الغرب أظنه أكثر شمولا هو: الشعبوية المتجددة والحركة المواطنية المتجددة بكل ما يحمل من تجليات طبقية وثقافية). ثانيا: التراجع الديمقراطى ومواجهة ما يطلق عليه: «اللحظة اللا ليبرالية»...
إذن، «ما بعد الحقيقة» بدءا لزمن جديد...يستوجب منا التفكيروالتعاطى معه...مع سقوط العالم الذى كنا نعرفه.