في نهاية الثمانينيات كلفت بإعداد بحث عن «الآخر». فتناقشت مع أستاذنا الراحل الكبير الدكتور وليم سليمان قلادة الذي اتفق الجميع على وصفه بمدرسة حب الوطن. حول الموضوع وأهم المصادر التي يمكن الرجوع إليها.
وأثناء النقاش قال لي: «عليك بكتاب سيد يسين الشخصية العربية بين صورة الذات ومفهوم الآخر». ثم وجدت الدكتور وليم وكعادته عندما يتحمس علميا تجده يبذل كل شيء من أجل تقديم كل ما يمكنه للباحث. فوجدته يقترح: لماذا لا تذهب لزيارة الأستاذ سيد وتتعرف عليه وتتواصل معه مباشرة.
وبالفعل قام الدكتور وليم بالاتصال بالأستاذ سيد وأخذ موعدا منه. وذهبنا إليه وقبل أن نتحدث فيما يخصني. وجدت حوارا ثريا بين الأستاذين. حوار متنوع في: السياسة، والقانون، والأدب، والثقافة. وعندما جاء وقت الحديث عن البحث الذي أعده. سألني عدة أسئلة فوجدني حاضرا بالإجابة. وفجأة وجدته يسقط كل الحواجز فرق السن والخبرة والمعرفة. وكأن الأسئلة كانت بمثابة امتحان كان من الضروري المرور به. وبه يحدد أستاذ سيد أن يمنحني ما هو أكثر من المساعدة الطبيعية ـــ التي لم يكن يمتنع عنها في كل الأحوال ـــ أقصد الصداقة والتواصل الانساني والعلمي. وبالفعل، منذ هذا اليوم توطدت علاقتي بالأستاذ السيد. وخاصة أنني وجدت فيه طبعة أخرى من مدرسة حب الوطن.وفي 1998 قدم لي كتابي الأول الذي هو عبارة عن ترجمة وتعليق على نص لبرنارد لويس...وتشاركنا وسافرنا معا في الكثير من اللقاءات.
وقد فكرت كثيرا بأي وصف يمكن أن نصف الأستاذ سيد. هل نصفه بالعالم، وهو كذلك. أم بالمفكر، وهو كذلك أيضا. أم بالمثقف، ويقينا هو كذلك. ووجدت أنه عاش عمره يبحث عن «الحقيقة» بالمعنى السقراطي. وهو معنى مركب: حيث يحمل كل الأوصاف السابقة بالإضافة إلى الحكمة...
وأشير هنا إلى أربع ملاحظات كان يحرص عليها الأستاذ سيد في مسيرته العلمية من جهة، ويقيم بها من يقصده من جهة أخرى، ويدعوه إلى تبنيها وذلك كما يلي: أولا: النمو المعرفي الدائم. لأن معدلات التطور في الحقول المعرفية المختلفة أصبحت تقفز قفزات مطردة. ثانيا: لأننا نعيش عالما معقدا فإن التخصص الضيق والمغلق لم يعد مناسبا للعصر. وعليه لابد من تبني منهج متعدد المداخل ومتشابك. ثالثا: على الباحث أن يمارس دوره في نقد المجتمع. بهدف ترشيد الخطاب السياسي والثقافي السائد. شريطة أن يكون الخطاب الجديد قادرا على التواصل مع المواطنين. ولن يتم هذا إلا من خلال عملية مراجعة نقدية مركبة: للذات، وللفكر، وللواقع. رابعا: أن يتمم الباحث مهمته من خلال ممارسة ثقافية منتجة تعيد بناء العقول دون يأس أو إحباط.
وفي ضوء ما سبق، تنقل السيد يسين من حقل القانون. إلى حقل علم الاجتماع: السياسي، والأدبي، والديني. وعلم اجتماع المعرفة الذي فتح له آفاقا إلى رحاب: المعلوماتيات، والاتصال، والشبكات،...،إلخ. وحقل علم النفس. فالعلوم السياسية بفروعها المتنوعة: العلاقات الدولية، والنظم، والسياسة المقارنة. كل ذلك على خلفية تكوين ثقافي يتضمن الفلسفة، والأدب، والفن،...،إلخ.
كما كان له السبق في تغذية الفكر العربي وخطابه بمصطلحات مثل: «الخريطة المعرفية« و «التحليل الثقافي». كما عمل بلورة «مشروع حضاري جديد»...وأخيرا عمل على بدأب على 25 يناير وصك تعبير «الشعب على منصة التاريخ». وهو تعبير مبكر وعميق باتت له تجليات على أرض الواقع في العالم الآن.
مع كل هذا الزخم المعرفي. لم يكن الأستاذ سيد يجد غضاضة في أن يتصل بأي احد كتب فكرة جديدة أو استحدث أو استحضر مصطلحا جديدا. حيث كان الاتصال يجمع بين: الثناء، والسؤال، والاستفسار...لا يجد أي غضاضة في أن يسأل ويعرف...وإذا لزم الأمر الدعوة للنقاش...لم يكن يمر شهر لا يبادر فيه الأستاذ سيد بالاتصال مرة على الأقل. فلقد كان اتصاله يحمل الكثير والكثير من المعاني: الأبوة، والتواصل الانساني، والحوار العلمي. ولن أنسى دوما كيف كان يتواصل مباشرة دون مقدمات: «إيه آخر أخبار الإبداع» مدخله الأثير معيس...ثم نقاش سريع فلقاء فوري...ولا أنسى اصراره وتشجيعه على توثيق تجربتي في جهاز البيروقراطية المصرية كنائب لمحافظ القاهرة. والنقاشات المطولة حول هذا الموضوع التي أفدت منها كثيرا وخرج منها تصور أولي متميز...كذلك نقاشاتي معه حول السياسات الثقافية...
السيد يسين ابن بار من أبناء الوطنية المصرية. يدرك ماذا يعني الوطن المصري ودولته التاريخية. عمل بدأب إلى آخر يوم في عمره...كان يقتات من عمل يده: الكتابة...وكانت أسعد لحظة في حياته أن ينتج كتابا. ويبدأ في تقديمه للأحباء والأصدقاء والتلاميذ...كانت قيمة العمل الدؤوب هي القيمة العليا في حياته متبعا في ذلك رائد العقل النقدي طه حسين الذي قال في صدر أحد كتبه:«إلى الذين لا يعملون ويضيرهم أن يعمل الناس»...هكذا كان يفعل الأستاذ السيد يسين...رحمه الله...نتابع...