الطبقة الوسطى الأوروبية تقاوم الإحباط بالاحتجاج

من خلال دراستنا للحركات الجماهيرية البازغة والتي صنفناها إلى نوعين هما: أولا: «الحركات المواطنية الجديدة». وثانيا «الحركة الشعوبية المتجددة». والذي يجمع بينهما موقفا موحدا ضد:المؤسسية العتيقة، والنخبوية المهيمنة، والسياسات السائدة. ومن ثم تحركا ميدانيا من خارج ما هو قائم في كل أوروبا: شرقها وغربها وشمالها وجنوبها. 



وجدنا «الطبقة الوسطى»؛ بشرائحها الثلاث: العليا والوسطى والدنيا، هي الكتلة الأساسية الحاضرة في مختلف الحركات. لا يمنع أن نجد طبقات وشرائح أخرى منضمة إليها. إلا أن الطبقة الوسطى ـــ تحديدا ـــ هي الطبقة التي يمكن أن نقول عليها «الطبقة العابرة للحدود بين هذه الحركات على اختلافها. لذا ما من دراسة أكاديمية أو ورقة سياسية صدرت خلال العامين الماضيين لتحليل ظاهرة الحركات الجماهيرية الصاعدة من خارج الأحزاب والكيانات التقليدية إلا وكان هناك حديث عن الطبقة الوسطى...ويعد السؤال المحوري في هذا المقام: لماذا تنفض الطبقة الوسطى عن الأحزاب التي تعبر عنها؟...فكانت الإجابة التي تكررت كثيرا في الأسباب الثلاثة التالية: 

السبب الأول: تبني الأحزاب لسياسات مراوغة ومناورة وغير حاسمة. ومن ثم تفشل في الحفاظ أو الدفاع عن حقوق داعميها وأنصارها. ويترتب على ذلك السبب الثاني: الفقدان المنظم للقواعد الجماهيرية التي تشكل بني الأحزاب القائمة. ومحصلة لما سبق يتكون السبب الثالث: فقدان شرعية الأحزاب القائمة في قدرتها على التعبير عن مصالح جمهور بعينه. 

وهكذا تبدأ «الطبقة الوسطى» في التحرك من خارج هذه الأحزاب عبر الحركة «الميدانية» و«الشوارعية» (إذا جاز التعبير)«Street Movements». 

إلا أن التعمق في دراسة الظاهرة يكتشف أن الموقف الذي اتخذته الطبقة الوسطى من الأحزاب ما هو إلا بسبب السياق الاقتصادي الذي تكون وتكلس بسبب السياسات الاقتصادية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة والتي لم تخرج عن سقف الليبرالية الجديدة. وبسبب فشلها تم الأخذ بسياسات التقشف وميلاد ما بات يعرف «بزمن التقشف» Age of Austerity ما أدى إلى: «التفاوت الاجتماعي الحاد والمتنامي» (بحسب أدبيات المواطنة وأحيانا يقال بأن التقشف أدى إلى دورة انحطاط ممتدة). ما جعلها تشعر بما بات يعرف «بالإحباط التاريخي»... وقد نتج هذا الإحباط للأسباب الثلاثة الآتية: الأول: التراجع التاريخي عن بنود العقد الاجتماعي التاريخي لمراعاة الطبقة الوسطى الذي تبلور عقب أزمة 1929 الاقتصادية. والتي تقوم على «تمكين» الطبقة الوسطى ودعمها في الحضور السياسي والمدني والاقتصادي. الثاني: عقب الأزمة الاقتصادية الأسوأ في 2008 تم اتباع سياسات تقشف حادة. كانت الطبقة الوسطى الأكثر تضررا منها. حيث خاصمت الادخار، وضعف استهلاكها، ولم يعد لديها القدرة على تأمين الرعاية الصحية، والتعليم، والخدمات في العموم. كما لم تعد هناك آليات تضغط في اتجاه توفير منظومة صيانة وإحلال وتجديد المرافق العامة والبنية التحتية التي تعين الطبقة الوسطى على الحياة الكريمة. ما نتج عنه فجوة مجتمعية كبيرة بين هذه الطبقة وبين الطبقة العليا من المجتمع جعلتها أقرب إلى الطبقة الدنيا من الجسم الاجتماعي. 

وفي هذا السياق وربطا مع ما تقدم لم تعد الأحزاب أو الروابط المنوط بها الدفاع عن الطبقة الوسطى قادرة على ذلك.لأن نخبتها صارت في موقع مضاد لقاعدتها الاجتماعية. وباتت أداة لشبكات المصالح الضيقة وربما في بعض الأحيان لأفراد بعينهم. 

وأصبحت الأحزاب وتنويعاتها التنظيمية التمثيلية التاريخية من نتاجات الثورة الصناعية والحرب العالمية الثانية على التوالي: الروابط، الاتحادات، النقابات،...، إلخ، في الأغلب الأعم فاقدة الصلاحية التاريخية. 

وعليه لم يعد أمام هذه الطبقة ــ دفاعا عن وجودها ـــ إلا أن «تحتج» من خلال اللجوء إلى الشارع مباشرة والانتظام من خلال الحركات المواطنية الجديدة: التي يستمر بعضها في العمل كحركات ضاغطة، وبعضها يمارس العمل الحزبي ويدخل الانتخابات دون أن يتحول إلى حزب. أو الانخراط في أحزاب الطبعة الجديدة من الشعبوية. 

وهكذا «بالاحتجاج» الميداني تدافع الطبقة الوسطى عن نفسها وعن مكانتها. وتتخذ من الاحباط وقودا يجدد من طاقتها الحيوية. وتستفيد من التقنيات التواصلية الشبكية في بلورة أشكال جديدة من التنظيم. تعد انقلابا على كل التنظيمات والتكوينات التاريخية التي تبلورت عقب محطات الانتصار الانساني الكبرى. خاصة وأن الطبقة الوسطى تمثل ما يقرب من 45% من الجسم الاجتماعي البريطاني وفق أطروحة جي ستاندينج الذي في ظني جدد الاهتمام بتحليل الجسم الاجتماعي والذي طرح تعبير طبقة البريكاريات التي كنا أول من اشار إليها بتعبير «طبقة المنبوذين». 

لقد أعادت الطبقة الوسطى الانتشار فيما يطلق عليه جوران ثيربورن (1941)، «الكتل الجديدة» (دراسة منشورة في 2014) وهو نوع من التحالفات تنشطها الطبقة الوسطى دون التمسك بنمط التحالفات السياسية المتعارف عليها تاريخيا. 

الخلاصة، هناك حالة تمرد على كل ما أنتجته الحرب العالمية الثانية من: أفكار، ومؤسسات، وسياسات. كذلك رفض الاحتكار والهيمنة والشمولية والنخبوية والأبوية...وهناك حالة تحرك مجتمعي حية جديدة...كل شيء يتغير ـــ بنعومة ـــ في عالمنا...وستمتد آثاره إلى بقعة من بقاع الكوكب...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern