سقط جدار برلين وسقطت معه الشمولية السياسية والمدنية قبل عقد من الألفية الجديدة...وبعده سقطت «جدران» كثيرة تعبر عن شموليات اجتماعية وثقافية متعددة...وواكب هذا السقوط ثورة فى دنيا الاتصالات يسرت التواصل بين الناس والتعبئة فيما بينهم لمواصلة النضال تجاه الشموليات الساقطة والحيلولة دون عودتها...جرى هذا النضال من خارج الأبنية القائمة. جرى عبر الميادين والطرقات المدينية الحديثة.
فى هذا السياق، وقبل نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة (فى 2008). وقعت الأزمة الاقتصادية الأكبر فى تاريخ البشرية، والتى عكست محنة «الشمولية الاقتصادية»؛ إذا جاز التعبير، التى سادت العالم منذ 1979 تحت مظلة الليبرالية الجديدة. حيث وعدت الانسانية بتحسين أحوالها. فاستيقظ العالم فى أحد أيام 2008 ليتبين سكانه أنهم يعيشون لحظة «لامساواة» غير مسبوقة فى تاريخهم. وأن الثروات وعوائدها تتمركز فى أيدى 1% من الصفوة الاقتصادية.أدت إلى تبلور طبقة «البريكاريات» فى انجلترا(فما بالنا بباقى العالم) والتى وصفناها بالطبقة: «المنبوذة»، و «المهددة وجوديا كيانيا». وعليه كانت الغضبة الكبرى.
تمثلت هذه الغضبة فى حركة جماهيرية قاعدية. انطلقت لتحافظ على انجازات حققتها ضد الشموليات الساقطة: السياسية والمدنية، والاجتماعية والثقافية. وضد الشمولية الاقتصادية التى تقاوم وتناور وتحاول ان تجدد حضورها. بعض من هذا التحرك كان واعيا بما أنجز فى مجال المواطنة من مساواة، وعدالة، وتقاسم الثروات العامة للأوطان، وضرورة وجود اقتصادات انتاجية متقدمة. وهو التحرك الذى انتظم فيما أطلقت عليه «الحركة المواطنية الجديدة». وهى الحركة التى تعد امتدادا لحركات مناهضة العولمة، واكتساب الحقوق الاقتصادية والثقافية فى إطار دعم دولة المواطنة التى تقوم على الشراكة بين الجميع.كما تنطلق من فهم عميق لمعنى «السيادة للشعب» بالمعنى الدستورى والتاريخى النضالي.كما تقوم على محاولة «تحسس/تلمس» نموذج حضارى جديد.
أما البعض الآخر من التحرك فقد اختارت أن تتحرك عناصره فى إطار «شعبوي». لا يهم أن يكونوا تابعين: لزعامة، أو جماعة، أو واعظ، أو طائفة، أو حزب مغلق...ولا يهم أن يظلوا «رعايا» فى إطار هذا التحرك الشعبوي. ولا يهم أن تحركهم المشاعر والغرائز. شريطة أن يتخلصوا من الأزمة التى تلاحقهم.
فى هذا الإطار، انطلقت «الشعبوية» المتجددة تنتشر فى عموم الغرب دون تمييز. ويلفت نظرنا فريد زكريا الباحث الأمريكى المعروف فى دراسته: «الشعبوية المنطلقة» (فورين أفيرز ــ نوفمبر 2016). كيف أن الحركات الشعبوية قد نجحت مع مطلع العقد الثانى من الألفية الجديدة أن تحتل ما متوسطه أكثر من 15% من إجمالى مقاعد البرلمانات الأوروبية. وأن العامل الاقتصادى الذى وصفه «بالانهيار» يعد عاملا محوريا وحاسما فى «تجدد» التحرك الشعبوى الراهن ـــ مرة أخرى ـــ منذ ستينيات من القرن الماضي...ولكن ما الجديد الذى تحمله الشعبوية المتجددة؟
بداية الشعبوية المتجددة ليست هى شعبوية أمريكا اللاتينية اليسارية النفس، والتى اتسمت بوجود «كاريزما» سياسية مثل: بيرون الذى بدأ حكمه الأول في: 1946. أو «لولا» الزعيم البرازيلى المهم،...،إلخ. وحيث انحازت للفقراء والمحرومين...الشعبوية المتجددة تنطلق من أزمتها المجتمعية ذات الاقتصاد المنهار. وتدعم هذا العامل بعوامل ثقافية متنوعة مثل: العامل الاثني، والعامل القومي، والعامل الفئوي. أى «تخلط» بين معاناتها الاقتصادية وتكوينها الثقافي. لذا يمكن أن تجد «كتلا» مجتمعية متنوعة منخرطة فى هذا التحرك. لايهمها التغيير الجذرى رغم رفضها بالمطلق للمؤسسية والنخبوية والسياسات القائمة.(وهنا تشترك مع الحركات المواطنية الجديدة فى هذا الرفض الثلاثي). وإنما يهمها أن تتجاوز الأزمة. وتربط الحل الاقتصادى بالحل الثقافي. فعلى سبيل المثال: ترى الشعبوية الجديدة أن الحل الاقتصادى لما تعانيه يكون عبر طرد المهاجرين. ومن ثم تكون الأطروحة السياسية السائدة هي: إما «الوطن» أو «المهاجرون»، وهكذا تتبلور مطالبهم...
فى هذا الاطار، توجد أكثر من 20 حركة شعبوية «متجددة» فى أوروبا متدرجة فى «شعبويتها» من: أولا: الشعبوية الليبرالية، ثانيا: الشعبوية القومية، ثالثا: الشعبوية الفاشية الجديدة، رابعا: الشعبوية الراديكالية. ويمكن أن تجد تداخلات بين تيارات هذه الحركات.
وتنبه الدراسات التى تناولت هذه الظاهرة المتنامية إلى تكوينها الطبقي. حيث لا يمكن الركون إلى ما هو متصور عن الشعبوية التاريخية حاضنة الطبقات المحرومة. فالشعبوية المتجددة يمكن اعتبارها الملاذ الذى تلجأ إليه الطبقات الاجتماعية والفئات النوعية التى يمكن أن تكون خارج منظومة الحداثة بغض النظر من استخدام وسائلها أو لا. كذلك يمكن أن تتضمن الأغنياء من ذوى القناعة بنقاء الجنس، واللون. كذلك الطبقات العمالية التى أضيرت من سياسات العولمة. والشباب الذى لم ينخرط فى العالم الشبكى ومن ثم مهاراته وقدراته لا ترقى لسوق العمل المعاصر، والمحافظون بالمعنى الثقافى والديني، والمسنون،...،إلخ.
الخلاصة، أن الشعبوية المتجددة ظاهرة جدية. شأنها شأن الحركة المواطنية الجديدة ترفض الديمقراطية التمثيلية.وإن كانت تمارس آلياتها. وإن هذه التحركات ستستمر إلى أن يتأسس الزمن الجديد الذى أشرنا إليه من قبل. وأهم ملامحه سقوط الشمولية الاقتصادية...والزمن الجديد قيد التشكل ستكون له امتداداته على الكوكب...نتابع...