الحركة المواطنية الأوروبية الصاعدة.. تأسيس لزمن جديد

من رحم «السخط»، و«الغضب»، و «الشعور بالنبذ»، و «الإقصاء»، ...و «اللامساواة واللاعدالة»؛ خرجت جحافل من الجماهير تحتج وتعترض على الأزمة المالية الأكبر في تاريخ البشرية، أزمة 2008، خاصة في أوروبا. البعض انتظم في تشكيلات «شعبوية». والبعض الآخر أبدع في تشكيلات جديدة كجزء من عملية الاحتجاج على كل ما هو قائم فاشل ومن ثم فاقد الصلاحية.



في هذا السياق، شهدت أوروبا ـ القارة العجوز ـــ حيوية تاريخية لم تعرفها ــ ربما ـــ منذ أزمنة ثورات القرن الثامن عشر وما بعدها. وقد وصفنا التشكيلات الشعبوية بالمتجددة. ووصفنا التكوينات الجديدة «بالحركة المواطنية الجديدة». ويبدو لي أننا لم ندرك بعد أن الحيوية التاريخية التي يشهدها الغرب ـــ مرة أخرى الغرب ـــ هي بداية لتحول كبير يمس البنى والتقاليد التي سادت لقرون. وستكون له آثار كبيرة علينا ولاشك. وللتذكير نقول: إن هذه الحيوية الجماهيرية (المواطنية والشعبوية) خرجت رافضة «ضد»: «المؤسسات القائمة» و«النخبة المهيمنة» والسياسات السائدة، ولكن اختلفت في طريقة مواجهتها...لذا من الضرورة التمييز بين الحركات ذات الطبيعة «الشعبوية» والأخرى «المواطنية الجديدة»، خاصة وقد ساد نهج عند البعض باعتبار كل ما هو حركي قاعدي جماهيري هو شعبويا بالضرورة.

فإذا ما اقتربنا ــ هذا الأسبوع ـــ مما أُطلق عليه: «حركات المواطنية الجديدة»؛ يمكن القول أن هذه الحركات المتنامية والتي بدأت تنتشر في القارة الأوروبية باتجاهاتها الأربعة تعد «تأسيسا لزمن جديد»... فالمتابع لعدد «المنابر والمنصات السياسية الجديدة» التي تشكلت في دول أوروبا منذ العام 2008 سوف يجدها تقترب من 50، بدأت كحركات مطالبية واحتجاجية. ثم تحول بعضها إلى كيانات تنخرط في العملية الانتخابية. ففاز أغلبها في أول انتخابات تخوضها بنسب تدور حول 25% وأكثر.(مقارنة بأحزاب الخضر التي ظهرت في الثمانينيات كأحزاب من خارج الأحزاب التاريخية التقليدية. حيث حصدت آنذاك نحو 15% فأقل). وبعضها نجح أن يكون حاضرا في البرلمان الأوروبي. ولم تكن هذه الظاهرة قاصرة على دول بعينها بل انتشرت في غالب دول القارة الأوروبية مثل: فنلندا، وقبرص، وبلغاريا، وهولندا، وألمانيا، رومانيا، وإيطاليا، واليونان، والبرتغال، وأيسلندا، وأوكرانيا، وسلوفانيا، والسويد، والمجر، وليتوانيا، ولاتفيا، والتشيك، والدانمرك، واسبانيا،... وتتفق دراسات عديدة حديثة تناولت هذه الظاهرة فى أنها ظاهرة باتت «تخلخل ما هو مستقر» في أوروبا منذ الثورة الصناعية.(ويلاحظ مواكبة الاكاديميا للظواهر المستجدة أولا بأول)...والسؤال المطلوب الإجابة عنه ــ فيما أظن ـــ ما محرك هذه الظاهرة وطبيعتها وما تريد تحقيقه...

إن الحركة المواطنية الجديدة هي تعبير عن حركية مجتمعية تود التحرر من القوالب التاريخية من: مؤسسات، ونخب، وسياسات فشلت في منع أكبر فجوة مجتمعية عرفها العالم ممتدة منذ الثورة الصناعية وإلى الآن. والتي تجلت في العديد من مظاهر اللامساواة في شتى المجالات. ومن ثم اللاعدالة. وعليه أصبح من اللازم إحداث تغيير على العقد الاجتماعي التاريخي. فالعقد الاجتماعي القديم تم توقيعه في سياق الثورة الصناعية وكان يعلن ميلاد «المواطن/الفرد». وظلت معركة المواطن هى كيف يكتسب حقوقه: المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية،...، على التوالي عبر العصور.

وفي ضوء الخبرة التاريخية، ثبت أن سياسات الليبرالية الجديدة أفادت القلة على حساب الأغلبية. ومن ثم تحركت الجماهير لتواجه هذه السياسات في إطار كتل مجتمعية «Societal Masses»؛ بحسب أحد الباحثين. وهي معركة نضالية أكثر تعقيدا من الصراع الاجتماعي في صورته الأولية المباشرة. لأنها تحمل صراعات مركبة ومتداخلة بين الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي.

واتسمت هذه المعركة بعدة ملامح منها: أولا: تشكل ما يعرف بمواطني الميدان. حيث النضال المباشر. والشراكة بين المواطنين والمثقفين وأصحاب المصالح المتضررين. وهي تحمل فكرة فلسفية تتعلق بالسيطرة المباشرة على المجال العام: الشارع، الميدان. ثانيا: تحقيق الديمقراطية التشاركية أو ما اطلقت عليه وصف «مواطنة بلا وسطاء». ما يعد إعلان وفاة أو انتهاء صلاحية الديمقراطية التمثيلية. ثالثا: تبلور ما يمكن أن نطلق عليه «مواطن الصالح العام» لا «الرؤية الأيديولوجية المنحازة». وهو ما يمكن رؤيته بوضوح في أطروحات حركات: الخمس نجوم الإيطالية، وبوديموس الإسبانية، وسيريزا اليونانية، والشعب الرومانية، وبيرات السويدية،...،إلخ. حيث ينطلقون من مواجهة الفساد كقضية مادية ملموسة لدى عموم المواطنين يمكن البدء بها أي تقدم. وعليه رابعا: تكون الحركات المواطنية الجديدة في تصورها قد عبرت عن «الارادة الجمعية لعموم المواطنين».

وتعكس خبرة كل من حركتي بوديموس الإسبانية والخمس نجوم الإيطالية كيف أثناء المعركة مع المؤسسات والنخب والسياسات تكتسب الخبرة السياسية والوعي الاجتماعي اللازمين.انطلاقا من الإيمان بأن هناك دائما «بديلا/ بدائل». وتعد التقنيات الاتصالية الرقمية هي الأداة المعتمدة في تشبيك عناصر هذه الحركات بما تضم من كتل مجتمعية...وأظن أنه من المفيد إلقاء الضوء، لاحقا، على خبرة بوديموس الإسبانية وتطورها في وقت وجيز لنفهم عن قرب كيف أن الواقع بات يفرض نفسه متجاوزا كل ما هو قديم...وذلك بعد أن نقترب من الحركات الشعبوية المتجددة...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern