تنمية «الاستقطاب»

أطلقت أزمة 2008 الاقتصادية، الأزمة الأخطر في تاريخ الانسانية، حوارا كبيرا في الأروقة الأكاديمية ــــ وبالأخص البريطانية ـــ والتنموية العالمية. وخلصت هذه الحوارات إلي ضرورة المراجعة الشاملة حول الاقتصاد النيوليبرالي: اقتصاد السوق والخصخصة؛ الذي ساد العالم منذ نهاية السبعينيات...وقد طالت المراجعة كل شيء...



فمنذ 1979 ساد اقتصاد عرف باقتصاد الليبرالية الجديدة. وهو الاقتصاد الذي أدي إلي حدوث أزمات اقتصادية كونية متكررة، بلغت 200 أزمة. وكانت أزمة 2008 ذروة هذه الأزمات والأخطر في تاريخ البشرية. وهي الأزمة التي بينت أن كل الوعود بحياة أفضل قد ذهبت أدراج الرياح. وأن حصاد النموذج التنموي لليبرالية الجديدة هو التنامي الضخم للفجوة بين من يملك ومن لا يملك، بصورة غير مسبوقة. وأن «اللامساواة» باتت هي العنوان الاساسي الذي يميز العلاقة بين البشر بكافة أبعادها. ما أُعتبر جرس انذار... ودفع البعض إلي وصف النموذج التنموي الذي قدمه اقتصاد السوق «بتنمية الفجوة»، بين الأغنياء والفقراء، والأجيال، والنظم السياسية والمواطنين، وبين الشمال والجنوب كونيا ومحليا،...،إلخ. وإلي «الاستقطاب المجتمعي» «Societal Polarization»: اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا، وثقافيا.

من هنا تكالبت الدوائر البحثية والمؤسسية: الحكومية والتنموية والمجتمعية الدولية علي دراسة ما آلت إليه أحوال البشر في كوكبهم. وكان هذا التكالب بمنزلة انجذاب تمحور حول «قطبب» عرف بقطب: «نقد ومراجعة الاستراتيجية الحاكمة لليبرالية الجديدة» في مواجهة قطب الليبرالية الجديدة الذي حكم العالم منذ 1979عقب «توافق واشنطن» بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ومعهما المؤسسات الدولية النقدية الذي روج لاقتصاد السوق. وهو القطب الذي وصف بقطب «الاصلاح وتساقط الثمار من أعلي». وأيضا مواجهة محاولات تجميل هذا الاقتصاد باستدعاء «السياسات الإصلاحية الكينزية» التي طبقت وقت الأزمة الاقتصادية ثلاثينيات القرن الماضي في أمريكا والتي عرفت بمراعاة البعد الاجتماعي، للتطبيق عقب أزمة 2008. ذلك لأن السياق العالمي الراهن قد اختلف كليا عن سياق الماضي بفعل شراسة الرأسمالية الراهنة. كما أن التجربة أثبتت أن الاستمرار في سياسات الليبرالية الجديدة أو في صورتها المحسنة (الكينزية) سوف «يعيد إنتاج» نفس النتائج الكارثية التي سببت الأزمات الاقتصادية المتعاقبة والتي وصلت ذروتها في أزمة 2008.

وتمثلت النتائج الكارثية في الآتي: أولا: عجز الدولة عن مواجهة آثار الأزمة الاقتصادية. ثانيا: تشوهات طالت الجسم الاجتماعي بطبقاته الاجتماعية. ثالثا: انتشار قيم ثقافية سوقية فاسدة. ما دفع إلي تحركات قاعدية في أنحاء الكوكب: في شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة للحراكات العربية. أو ما أُطلق عليه «الحركات المواطنية الجديدة» التي خرجت احتجاجا علي تداعيات أزمة 2008 في أنحاء العالم ولم تزل تتحرك...

وفي المحصلة ساهمت كل من النتائج الكارثية والحركة المواطنية الجديدة في استنفار «قطب النقد والمراجعة» للمواجهة والعمل علي إيجاد بدائل جذرية. فالمواجهة باتت حتمية بين القطبين. ذلك لأن النموذج الليبرالي بوجهيه الشرس/الإصلاحي لم يحقق المأمول منه. ومن ثم أدي «الاستقطاب المجتمعي» إلي ميلاد مدرسة اتنمية الاستقطابب «Polarizing Development»؛ التي تسعي لمراعاة العدالة بين جميع المواطنين وسد الفجوات المتنوعة. وهو أمر لن يتأتي إلا بتشكل «قطب النقد والمراجعة وتقديم البدائل الجذرية» القادر علي مواجهة «قطب الليبرالية الشرسة والمأزومة»...بهذا المعني يصبح تشكل قطب المراجعة والنقد مطلوب وضروري...

وتشكل قطب النقد والمراجعة من أجيال جديدة من الباحثين الذين سعوا بإخلاص إلي بلورة رؤي واستراتيجيات وسياسات وبرامج مبدعة مغايرة لما هو سائد. ونشير هنا علي سبيل المثال إلي الحيوية المعرفية والبرامجية البريطانية التي امتدت لمناقشة الكثير من الموضوعات المرتبطة بالنموذج التنموي المرجو. من هذه الموضوعات: أولا: طبيعة الدولة. ثانيا: إعادة رسم خريطة الجسم الاجتماعي في ضوء المستجدات. ثالثا: منظومة القيم السائدة وتقييم عناصرها. رابعا: وضع سياسات عملية وواقعية تصب في رأب الصدع وسد الفجوة وتحقق العدالة بين المواطنين. خامسا: دراسة المستجدات الديموجرافية بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية. سادسا: أشكال وأنماط الانتاج المستحدثة وفق التطور التكنولوجي المطرد الذي يشهده العالم. سابعا: دراسة علاقات العمل وكل ما يتعلق بها من تشريعات وقوانين...،إلخ...

ويشير الحصاد النهائي لهذه الحيوية (خلال الفترة من 2010 إلي يومنا هذا) إلي مئات العناوين البحثية التي تناولت العديد من القضايا التي تتعلق بـ : الدولة، والاقتصاد، والتحليل الطبقي، وعلاقات الانتاج،...،إلخ. والكثير من المفاهيم: الاستدامة، والرفاهة، والتنمية، والعدالة، والمواطنة،...،إلخ. حيوية تقودها عشرات الأسماء من الأجيال الجديدة المتحررة من المقولات النمطية التي سادت علي مدي عقود وتتسلح بالقدرة الفكرية والعملية لمواجهة هذه المقولات والمؤسسات التي تدعمها. ونذكر فقط بتجربة عرضناها قام بها عالم الاجتماع ستاندينج صاحب مصطلح طبقة البريكاريات التي ترجمناها بطبقة المنسحقين حيث أعيد الاعتبار إلي رسم الخريطة الطبقية والسياسات المطلوبة في بريطانيا.

ظني أن هناك ضرورة إلي تشكيل مجموعة عمل تطل بنا علي العالم الجديد الآخذ في التشكل بعيدا عن التصورات النمطية والفهلوية. ما يؤهلها للنقد الرصين وتقديم البدائل العادلة...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern