واجبات السيادة: مبدأ خطير يؤسس لنظام عالمى جديد

جرى العرف مع رحيل إدارة أمريكية وقدوم أخرى، خاصة وإذا كان التسليم والتسلم سيتم بين الحزبين الكبيرين فى الولايات المتحدة الأمريكية: الديمقراطى والجمهوري، أن تكثر الأطروحات الاستراتيجية المقدمة من «مستودعات الفكر»، والخبراء المعتبرين...من هذه الأطروحات ما طرحه «ريتشارد هاس» فى دورية «فورين أفيرز» الصادرة منذ أيام. والذى يعلن فيه رؤية جديدة لمفهوم ’’السيادة‘‘؛ ما يعنى تحولا نوعيا لما طرحته معاهدة وستفاليا الشهيرة فى عام 1648 حول سيادة الدول...


بداية يعد ريتشارد هاس(1951)، أحد العقول الاستراتيجية الأمريكية التى تنتمى لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. وقد عمل مديرا لتخطيط السياسات فى وزارة الخارجية. كما تولى مهام ميدانية كثيرة فى إدارتى بوش الأب والابن فى أفغانستان، والكويت والعراق، وإيرلندا الشمالية. ويشغل الآن موقع رئيس مجلس العلاقات الخارجية فى الولايات المتحدة الأمريكية...ماذا يقول فى أطروحته الجديدة.

ينطلق هاس من أن معاهدة وستفاليا التى لجأ إليها قادة أوروبا فى منتصف القرن السابع عشر(1648)، لإنهاء حرب امتدت لثلاثين سنة، اشتركت فيها كل دول أوروبا تقريبا باستثناء روسيا، قد وضعت أسس ما بات يعرف بالنظام الدولي/العالمى الذى نظم العلاقة بين الدول من خلال أربعة مبادئ كما يلي: أولا: السيادة الوطنية. ثانيا: المساواة بين الدول. ثالثا: ترسيم الحدود الحاسمة لمنع النزاعات. رابعا: اختفاء هيمنة الدين على العلاقات الخارجية...هكذا قام النظام الدولى وظل قائما ـــ بدرجة أو اخرى ـــ إلى يومنا هذ. إلا أن هاس يشير إلى أن هناك مستجدات طرأت كان لها أثرها على مفهوم السيادة ما يعنى أننا فى طريقنا إلى نظام عالمى مغاير وجديد، جيل ثان، “World Order 2.0”؛...كيف؟

فلقد كانت السيادة الوطنية، تاريخيا، تؤسس لما يعرف بحقوق السيادة. أو حق الأوطان والدول فى الاستقلال وإدارة شئونها دون تدخلات خارجية. كذلك حق الدفاع عن هذا الاستقلال، والحفاظ على الحدود التى تم التوافق عليها دون عبث...هذا هو الجيل الأول من الاختراع» المسمى بالنظام العالمى الجديد «World Order 1.0»...

ولكن مع تنامى العولمة بما تعنيه من تداخلات تشابكية بين الدول. والقفزات المطردة فى مجال التقنيات الرقمية. و«التشابك» المتمدد بين البشر عبر تقنيات التواصل الاجتماعى المتعددة والمتزايدة. أصبحت الحدود وهمية. وعليه أُستبيحت الأوطان والدول. ويرصد مظاهر الاستباحة فى الآتي: اللاجئون، والإرهاب سواء المنظم من خلال الجماعات الإرهابية العسكرية، أو العمليات المتناثرة هنا وهناك. كذلك الأمراض والأوبئة التى تعبر الحدود. وهى كلها أمور تؤدى إلى حدوث تأثيرات خطرة. ولكن لا يمكن أن تترك باعتبارها شأنا داخليا فى كل دولة حيث إنها تؤثر على محيطها ما يٌحدث قلقا وصراعا وعدم استقرار.

وعليه يدعو ريتشارد هاس إلى تحديث «النظام التشغيلى للسيادة». فلا يتوقف عند حد الدفاع والحماية عن الحدود أو «حقوق السيادة»، فقط. وإنما يتجاوز ما سبق إلى ما يطلق عليه: «واجبات/التزامات السيادة»؛ «Sovereign Obligation»؛ تجاه الآخرين وما يحدث فيها من تفاعلات قد تؤثر على السيادة الوطنية.. ومن ثم يتم اتخاذ إجراءات خارج نطاق الحدود...ويشدد على ذلك. ويدلل بما قامت به روسيا فى القرم. كما يستعيد حالة غزو العراق للكويت. لا يعتبر هاس ما سبق انقلابا على وستفاليا بل بناء عليها... ويعدد هاس أمثلة عديدة يمكن أن تدفع أى دولة للتحرك لممارسة واجبات السيادة منها: أولا الحاجة لإعلان الحكم الذاتي، وثانيا: مواجهة انتشار الأسلحة النووية، وثالثا: أثار التغيرات المناخية السلبية، ورابعا: الفضاء السيبرنتيكي(الرقمى والالكتروني). وخامسا: الاقتصاد العولمي. وتتدرج واجبات السيادة من التعاون إلى الصراع المباشر، مرورا بالإجراءات الحمائية والاستباقية من تحركات دبلوماسية وتشريعات دولية قائمة أو مزمع استصدارها،...، إلخ. من هنا يعتبر هاس المنظومة الجديدة امتدادا للقديمة.

فى هذا السياق، يطالب هاس واشنطن (الادارة الأمريكية الجديدة) بتفعيل هذا المبدأ وجعله مقبولا من الآخرين. وأن تتحرك السياسة الخارجية الأمريكية وفق هذا المبدأ الحاكم فى زمن يتسم بالجغرافيا السياسية المركبة.

ويختم هاس ورقته المليئة بالتفاصيل فى كل مجال على حدة بقوله إن بناء نظام عالمى يقوم على واجبات السيادة هو بالتأكيد أمر طموح ولكنه طموح ينتج عن الواقعية التى يجب أن تأخذ بها الولايات المتحدة الأمريكية الآن لتحقيق خططها. ويبرر ذلك بأن أى نظام عالمى سوف يواجه خيارات الولايات المتحدة الأمريكية ومن ثم قد يعطلها. وبالمثل فقد تتعرض الدول الأخرى إلى ما قد يعطل خياراتها. لذا فليتشارك الجميع بما يضمن تحقيق الخيار الأمثل.

وبعد، تعد أطروحة هاس استمرارا لما طرحه فى كتابه «عسل وخل»، حيث يدعو إلى «التمدد الأمريكي» من خلال الإدماج. وذلك بربط بلدان العالم بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية. الجديد هو الإفصاح الواضح عن ضرورة تجاوز نظام وستفاليا. فيصبح من حق الدولة ــــ أى دولة ـــ أن تدافع عن سيادتها ليس فقط كحق فى إطار حدودها وإنما كواجب خارج حدودها...إنها أطروحة خطيرة...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern