الكنيسة: الثوابت الوطنية والمتغيرات الآنية

نحن نعيش لحظة تحول كبرى بكل المعايير. ومن سمات هذه اللحظة «الارتباك»، و«الحدية»، والخلط بين ما اختبر تاريخيا وأصبح من الثوابت الوطنية، ومن ملامح الشخصية المصرية ومقومات الكيان المصري. وبين المتغيرات التي يجب أن نستجيب لها بصورة مبدعة.



في هذا السياق، ومن خلال متابعتي للشأن القبطي ـــ من منظور المواطنة لا الملة/الطائفة ولا الأقلية السياسية ـــ أقول إن هناك مياها كثيرة جرت في هذا المقام. فمع حراك يناير وتمرد يونيو حدث تحول نوعي، نسبي، على حركية الأقباط وعلى تفاعل الكنيسة مع الدوائر التي تتحرك فيها. أقول نوعي وليس جذريا. تحرك يمثل نقلة تستجيب للسياق المتغير.

في هذا الإطار، قرأت بعناية حديث قداسة البابا تاوضروس الثاني مع الأستاذ أشرف صادق بجريدة الأهرام الأربعاء الماضي. حيث نجده من جانب يعيد صياغة بعض من الثوابت الوطنية التي اختبرها الأقباط عبر العصور. ومن جانب آخر، تصوره لبعض من الأمور الكنسية وأخرى عامة.

بالنسبة للثوابت الوطنية؛نجد قداسة البابا يقدم أولا: المصرية على أي شيء فيقول:«أنا مصري قبل أي شىء. وأدافع عن مصر بلدنا هذا هو المبدأ العام»، الذي ينطلق منه.. وثانيا: يضع الأقباط في خندق المصريين الذين رفضوا أوضاعا فتمردوا عليها. ويرفض فكرة أن العنف الديني هدفه عقوبة الأقباط دون غيرهم. كما يؤكد ثالثا: على فكرة أن «الدين هو شأن شخصي للإنسان سيحمله معه بعد حياته ويقف أمام الهه فقط، لكن وجودنا في مجتمع، وجودنا في بلد واسم وطن نحمله جميعا يجب أن يكون الجميع متساويا، فقبل أن اكون مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو أي ديانة. أنا إنسان ولدت على أرض مصر». و«المصرية هي العامل المشترك الذي يجمعنا جميعا». وعليه رابعا: رفض التدخل الخارجي في الشأن القبطي، داحضا فكرة الاستقواء بالخارج قائلا: «غير مقبول وبأي وجه ومن أي شخص أن يدخل في علاقتنا الوطنية داخل مصر، مرفوضة تماما، خالص، تحت أي بند وتحت أي مسمى مرفوضة تماما». فانتقد قداسته السياسات الغربية «فيما يتعلق بالشرق الأوسط» والتي أدت إلى «تفريغ ــــ المنطقة ــــ من المسيحيين». فتفريغ الأماكن التي نشأت فيها المسيحية، بتاريخها وتراثها، من المسيحيين، خطأ بالغ لخصوصية الشرق الذي يعيش فيه المسيحيون والمسلمون معا».

ما سبق هو امتداد لما كتبه مبكرا في عام 2013 في مجلة الكرازة، تحت عنوان: «الدين للديان والوطن للإنسان».والذي أكد فيها أن: «الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ــــ على مدار عشرين قرنا ـــ كنيسة وطنية حتى النخاع»...ويدلل قداسة البابا فورا على ذلك بقوله: «وهي المؤسسة المصرية الوحيدة التي لم تحتل على مدار القرون بل بقيت وطنية خالصة»...«مهما تغيرت الأجواء ومهما تغير الحكام وتعاقبت الأجيال»...ولم يقل طائفة قط...

ونشير هنا إلى أن الكنيسة الوطنية تعني أنها تأسست هنا وأن أعضاءها هم أبناء الوطن المصري الذين قبلوا المسيحية في القرن الأول الميلادي وأسسوا كنيستهم الوطنية...بهذا المعنى أصبحت الكنيسة القبطية كما أحب أن أقول دائما كنيسة مركز لا تتبع أحدا خارجها كذلك أعضاؤها ليسوا وافدين. فهم مواطنون سابقون على الكنيسة. هم مصريون: عرقا، وسكنا، ومواطنة. ومن ثم متنوعون.

وبالنسبة للأمور العامة والكنسية؛ لعل من أهم ما يمكن أن نسجله هنا هو قبوله «بالتنوع». وبوجهات نظر الشرائح المتنوعة من الأقباط. وكان يضع وجهة نظره دون أن يسفه أو يقلل أو يرفض وجهات النظر الأخرى. جرى هذا عندما سئل قداسته عن رأيه حول ردة فعل بعض الأقباط لأعمال العنف. أو موقفهم من زيارة القدس. أو ملاحظات البعض حول قانون بناء الكنائس. حيث يلمس المرء أن هناك مراعاة للمتغيرات ولوجهات النظر المتعددة. ما أظنه يحتاج إلى حوار واسع لاحقا. كما قدم قداسة البابا المختصين كي يبتوا في ملفات يعدها من اختصاصهم ــــ ينبغي ألا يتدخل فيها ـــ في الشأن السياسي والعلاقات الدولية»،...،إلخ،وبالطبع المختصون من المسلمين والمسيحيين. وفق مبدأ وضعه: «الكنيسة معنية بالشأن الروحي أولا وأخيرا للإنسان المسيحي، وخادمة لكل إنسان في المجتمع كما أنها معنية بهموم الوطن بأفراحه وأحزانه ولا تتأخر عن مشاركة كل المجتمع بالصلاة والعمل والخدمة والمساعدة من أجل تحقيق...السلام الاجتماعي والانسجام الشعبي بالفكر والقول والفعل في بلادنا». «فالكنيسة» ليست حزبا ولا جبهة ولا ائتلافا بل كيان روحى في عملها وأهدافها ودورها، كما أنها ليست في خصومة أو عداوة أو صراع مع أحد على الإطلاق بل تحب الكل وتخدم الكل بدون استثناء أو استبعاد بدون أي شروط»... وعليه يأبى قداسة البابا أن تكون الكنيسة :«ورقة في ملعب السياسة أو ديكورا في ملعب الإعلام لتحقيق مآرب سياسية أو إعلامية».

إنها رؤية تستحق التأمل والبناء عليها...

وبعد، كل عام والمصريون بخير...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern