الخبير المثقف والخبير الموظف

منذ أقل من شهر تقريبا كتب الدكتور حازم الببلاوى مقالا فى الأهرام عن »الخبير الاقتصادي«. تناول فيه بنظرة نقدية لظاهرة «الخبير الاقتصادي» الذى «يتحدث ،وبثقة تامة، تقريبا فى كل شيء يمت بصلة إلى الاقتصاد من قريب أو بعيد». منبها إلى أن الاقتصاد هو جزء من حياتنا سواء تعلق الأمر بالحكومات أو الأفراد».

وعليه فإن الأمر يحتاج إلى ما هو أكثر من النظرة الحرفية الضيقة. إلى نظرة أكثر شمولا تتجاوز الدراسة الفنية المتخصصة.



لذا طرح فى نهاية مقاله سؤالا مفاده: «كيف يمكن أن يصبح الفرد خبيرا اقتصاديا؟». هل الحصول على درجة علمية فى كلية التجارة أو الاقتصاد كافية، أم الأمر يتطلب العمل فى البنوك أو بأعمال المحاسبة. وهل هذا الخبير مؤهل للحديث عن السياسات النقدية بقدر معرفته بأوضاع الأسواق المالية العالمية؟». وينهى الببلاوى مقاله «أما لقب المتحدث خبيرا كان أم هاويا فلا يضيف كثيرا. فالعبرة بسلامة التحليل ومنطقيته وما يستند إليه من بيانات وأدلة»...

واقع الحال يفتح الدكتور الببلاوى الشهية للحديث عما هو أكثر من قضية «الخبير الاقتصادي». وأقصد ــ تحديدا ـــ مفهوم «الخبير». والشروط التى يجب أن يتسم بها «الخبير»، ولنقل للتمييز «الخبير الحقيقي».

بداية؛ «الخبير»؛ مصطلح ولد فى السياق الأمريكى ذات الطابع الرأسمالى العملي. فالضرورة الرأسمالية الساعية إلى الاستثمار والخاضعة «لإلحاح» المنافسة والسرعة فى الانجاز. تحتاج إلى «خبراء» ينجزون بشكل علمى تقني(فني) ومهنى مباشر، الرغبات الاستثمارية، والتنافسية، والتجارية،...، إلخ. دون النظر إلى السياق الاجتماعى أو الثقافي، أو التاريخي، أو حتى الاقتصادى فى إطاره الأعم. أى أن المستثمر يستحضر الخبير الهندسي، والخبير الاقتصادي، والخبير الديكوري، والخبير الكهربائي، والخبير ...،إلخ. لإنجاز مشروعه. حيث يتم إنجاز المشروع بغض النظر هل يتوافق المشروع مع حاجة المجتمع، أو مع التراث/النمط المعمارى السائد، أو مع المشروع التنموى العام للدولة، أو التطور الاقتصادي، أو الحاجة التصنيعية، أو أولويات التنمية،...، إلخ

بهذا يتحول الخبير ــــ فى واقع الحال ـــ إلى «صنايعي/أسطى» فى مجاله الضيق. ويصبح المصطلح مضللا. صحيح أن «الشطارة» فى المهنة أو التخصص مطلوبة. إلا أن ذلك لا يخول للمرء ـــ أى حق ـــ فى أن يكون خبيرا فيما هو أوسع من ذلك...فبالكاد يصبح خبيرا فى مجاله.

لذا يشير أحد الباحثين الفرنسيين إلى «استغلاق/غموض» مصطلح «خبير»، فى طبعته الأمريكية. كذلك يلفت النظر خبير آخر إلى «الفصل الذى مورس بين مصطلحى الخبير والمثقف» فى الثقافة الأمريكية. فصار الخبير مجرد «شخص كفء فى مجاله لا أكثر ولا أقل». والمثقف مجرد «شخص ينظر ويفكر فى الهواء الطلقس، بعيدا (أو مستبعدا) عن طريق المصالح....ذلك لأن اجتماع الصفتين يعنى جدلا ونقاشا يتجاوز «الصنعة» إلى مدى الحاجة إليها، وما يمكن أن تحدثه من آثار مختلفة على مختلف الأصعدة. والأهم تعطيل المشروع الذى استوفى دراسة الجدوى من المنظور الاستثماري...وقد كان لهذا الفصل: «التعسفي». تداعياته...كيف؟

ثانيا: الخبير الموظف؛ أدى التطور الاقتصادى الأمريكى إلى التوسع فى مجال الخبراء وإلى انشاء بيوت الخبرة ومجالس الخبراء. ولكنهم كانوا فى الأغلب ـــ إلا فيما ندر ــــ خبراء التخصصات الضيقة والولاءات الإدارية التامة لدافعى المكافآت. أو ما يمكن أن نطلق عليهم «الخبراء الموظفين». فهم درجة أعلى من التكنوقراط أو درجة المهنيين. كما أنهم ليسوا بالموظفين كاملى الدوام. فهم خبراء فى مجالاتهم الضيقة بلا معرفة واسعة او رؤية شاملة. ولكنهم يمتلكون «المهارة» التقنية المطلوبة أو الحرفة القادرة على الانجاز. و «الرطانة» التى تسمح لهم بالحديث السطحى الذى يبدو مهما ومن ثم بات ولاؤهم لمن يدفع أجرهم الذى بات يحسب بالساعة.

وليس صدفة أن تنمو دراسات التنمية البشرية والمدرسة السلوكية فى هذا الإطار على أهميتها. وأن تبلغ ذروتها مع الأخذ بسياسات الليبرالية الجديدة. وأن تصبح «جحافل الخبراء الموظفين» هى أدوات وأذرع هذه السياسات. ليس فى الولايات المتحدة الأمريكية، فحسب بل فى كل العالم.

فأصبح «الخبير الموظف» هو النموذج الأمثل والمنوط به القيام بأدوار النخبة السياسية والثقافية والاجتماعية بمعناها الكلاسيكى التاريخى العميق...وبالطبع تزداد أهميته إذا ما أخذ فرصة العمل فى إحدى الهيئات الدولية. ما يدعم حظوظه وفرصه فى الحضور والفتوى وتقديم الخبرة التى ليست خبرة فى حقيقة الأمر. فهى مجرد تقديم ما امتهنه كسلعة إلى أصحاب المشروعات ورغباتهم الخاصة فى لحظة ما. ويسهم الإعلام فى «تلميعهم»

وبعد؛ الخبير المثقف؛ هو ما نحن فى أمس الحاجة إليه. وبإعادة الاعتبار إلى مكانته وأهميته. والتى من أهم سماته ما يلي: أولا التكوين المعرفى الواسع. وثانيا الرؤية الشاملة. وثالثاإدراك بطبيعة المجتمع وتفاعلاته وصراعاته...

وأظن أننا فى هذا المقام نفتقد اسماعيل صبرى عبد الله ومحمد محمود الامام وثروت عكاشة ورشدى سعيد، وغيرهم،...ممن مارسوا العمل الإدارى وقدموا الخبرات ولكن على خلفية معرفية ورؤية وحس مجتمعي...كخبراء مثقفين...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern