البطرسية.. من الشيخ «القاياتى» إلى الشاب «الانتحارى»

يقول الشاعر الكبير أدونيس:’’ذلك الجسم الذى ينفجر ويتمزق متناثرا شلوا شلوا(مفردة أشلاء)، أو يحترق ويتحول إلى رماد وغبار، إنما هو جسم يبدو كأنما لا صاحب له‘‘...



لا أعرف بالضبط كم “جسما” مصريا تفجر منذ أن عرف العنف السياسي/الدينى طريقه إلى مصر قبل عقود. ولكن ما أعرفه هو أن مصر تعيش دورة عنف ممتدة لا جامح لها منذ مطلع السبعينيات وحتى الآن. وأن ’’مصر ــــ الإقليم الموحَد والموحِد‘‘:جغرافيا ودينيا منذ الأزل، قد تناثرت فيه “أشلاءُ” الجسامين على مدى جهاته الأربع...لم ينج مكان فى مصر من الجسامين المتفجرة من جراء هذا العنف. الأخطر أن هذا النوع من العنف ينفذ وفق غطاء دينى يبيح القتل للمخالفين وللمغايرين. عنف دموى يقينا ـــ لا يعرف تاريخ مصر الكنانة...مصر المحروسة...مصر المركب الحضارى التعددي...مصر ’’البراح‘‘؛: السعة والانفتاح.

أكاد أجزم أن الانتحارى الشاب ـــ ومن معه ــــ الذين قرروا تفجير الكنيسة البطرسية الأسبوع الماضى قد أعمتهم “تأويلات الدم”؛ عن معرفة أن هذا المكان الذى يتقدم نحو تفجيره قد وقف فيه يوما أحد مشايخ الأزهر الكبار...إنه الشيخ العلامة: “مصطفى أحمد عبدالجواد عبداللطيف القاياتي”(1879 ـــ1927)، (صاحب مؤلف: “المجموعة اللطيفة لمكارم الأخلاق المنيفة”، والذى حصل على العالمية من الأزهر الشريف، وأنتدب لتدريس اللغة العربية فى الجامعة المصرية.. عندما استشعر بأن التفرقة الدينية تطل برأسها فى وقت تحتاج إليه مصر إلى الوحدة والتماسك الوطنيين بين كل مكوناتها دون تمييز...خاصة أن مصر بكل مواطنيها كانت تناضل من أجل الاستقلال الوطني...

ففى مايو من عام 1922 (وقت مناقشة دستور 1923) ذهب مولانا الشيخ ’’القاياتي‘‘ إلى الكنيسة البطرسية، حيث خطب فى حضور خمسمائة من القبط قائلا: “أقسم بالله إذا كان الاستقلال سيؤدى إلى فصم الاتحاد(يقصد الوحدة الوطنية بين المصريين)، فلعنة الله على هذا الاستقلال”.

وحول هذه العبارة يعلق أستاذنا المؤرخ المعتبر طارق البشرى فى مجلده العمدة والمرجعي: “المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية”( الطبعة الأولى 1980 نقلا عن صحيفة وادى النيل فى 20 مايو 1922). أن الشيخ القاياتى كان ينبه بقوله السابق إلي: “أولوية التكوين الوطنى للجماعة المصرية على الاستقلال السياسي، وإلى أن التفرقة الدينية أكثر خطرا من الاحتلال ذاته”.

ولم يكن ما فعله الشيخ القاياتى تعبيرا عن موقف شخصى أو استثنائي. فلقد كان هذا هو الوعى السائد لمجايلى الشيخ القاياتى ونذكر منهم المشايخ:” يوسف الدجوي، ومحمد الابيارى وهما مكفوفان، ومحمد عبد اللطيف دراز، وسليمان نوار، وحمود الغمراوي، وعلى سرور الزنكلوني، ومحمود أبو العيون”(راجع سعيد اسماعيل على فى دور الأزهر فى السياسة المصرية ـــ 1986).حيث انخرطوا فى الحركة الوطنية. فبمجرد أن ذاع نبأ القبض على سعد زغلول أسرعوا إلى الرواق العباسي، حيث كونوا لجنة عام 1919تهدف إلي: كتابة المنشورات وتنظيم الخطابة والاجتماعات التى تعقد حول منبر الأزهر والكنائس.ولعب دورا فى التنسيق مع القيادات الدينية القبطية آنذاك للانضمام للحركة والتى كان من نتاجها تنظيم الخطب فى الكنائس. وكانت حركتهم تتكامل مع حركة السياسيين المصريين من المسلمين والأقباط الذين عرفتهم الحركة الوطنية آنذاك.

وتشير القراءة التفصيلية لهذه المرحلة وما بعدها. وتحديدا لمرحلتى النهوض الوطني: الليبرالى الاجتماعى من 1919 إلى 1969. حيث حكم زمن الشيخ القاياتي، الذى خطب فى البطرسية، تأويلات ترى فى الشراكة الوطنية بين المصريين على اختلافهم “ركنا” أساسيا من أركان النهوض الوطني. ينسجم فيها الدين مع الوطنية. وتتسق فيها الوطنية مع الدين.

إلا أن زمن الانتحاريين الشباب حل، مع مطلع السبعينيات، حاملا رؤى وافدة منبتة الصلة برؤى الأجداد...يتم فرضها من خلال الحزام الناسف...غير معنية بحياة البشر...كل البشر...تسعى لتؤسس لزمن قائم على التفرقة الدينية. وعلى سمو رؤيتها وعصمتها دون رؤى الآخرين...وأن رؤيتها لاتقبل بالشراكة الدينية ولا الوطنية، وربما بالوطن...ليس فى وعيها ولا وجدانها التجربة المصرية التاريخية...

ولكن فى ذروة التفجير والأشلاء المتناثرة، والدماء السوداء، والظلمة الحالكة...يخرج بصيص من الضوء متمثلا فى شعور المصريين بالخطر الذى لم يعد يصنف أو يميز...ومن ثم التضامن فيما بينهم ــ دون تمييز ـــ لمواجهة الحدث الجلل...فالمصاب واحد ويخص الجميع...والأجساد المتفجرة “لها صاحب”، ولها قيمة ومكانة...

وللحظة يستشعر المرء بأن الوجدان المصرى يختزن ــــ رغم كل دورات العنف ــــ قيم زمن الشيخ القاياتي. حيث يستدعيها، فتتجلى فى لحظة السواد لتنير الطريق وتمنع الشر المستهدف...

وتبقى الأسئلة الواجب طرحها: وتبقى الأسئلة الواجب طرحها.. أين زمن شيخ القاياتي؟ وكيف وصلنا إلى زمن الشاب الانتحاري؟ ألم يحن الوقت بعد لاستعادة زمن الشيخ القاياتى ورفاقه.. المصرى بامتياز.. وما الذى يعوق دون التواصل معه... أن تفجير الأجسام لم يعد يميز بين مصرى وآخر.. ولابد من وقفة.. رحم الله شهداء مصر على اختلافهم.. نتابع..


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern