مواطنة تامة بلا وسطاء

«آن أوان تأسيس الديمقراطية على أساس الاقتناع» بأن هناك «امكانات غيرعادية فى الناس العاديين»؛ لممارسة المواطنة التامة دون وسطاء»...

عبارة قالها أحد الباحثين ـــ منذ ما يقرب من 10 أعوام ـــ معلقا على ما طرحه “بنجامين باربر” فى كتابه العمدة “الديمقراطية القوية” (الطبعة الثانية ـــ 2004). وأظنها تمثل تفسيرا للحركات الشعبية الممتدة فى كل مكان التى تفكك ما يعرف بالديمقراطية التمثيلية التى

مورست على مدى أجيال. ذلك لأنها تقوم على نخبة ترى فى نفسها الجدارة على تمثيل المواطنين والتعبير عن مصالحهم فى المجال السياسي.

إلا أن ما ترتب على ذلك انقطاع هؤلاء المواطنين عن السياسة. فلم يعد هناك لزوم لحضورهم لأن هناك من ينوب عنهم ممن لديهم الخبرة، والقدرة السياسية اللازمة. ومن ثم، تحولت العلاقة بين المواطنين ومن يمثلهم، لتكون أقرب إلى العلاقة بين “الزبون” وموردى الخدمات. وبات الهدف الأسمى للمرشحين هو أن يجتهدوا فى “ملء بطون” هؤلاء الزبائن. ويصبح الأمر أقرب إلى “كسر عين” الناخب / الزبون. ومنعه من محاسبتهم أو مراجعتهم.ويشير “باربر”إلى تحول المجال السياسى إلى أمر أشبه بالسوق السياسي، بالمعنى التجاري، أو ما عبر عنه “بسوقنة السياسة” Marketization of Politics ؛ما أضعف العملية الديمقراطية وافقد المواطنة معناها ومسخها. والأهم هو أن هذه “السوقنة” أصبحت تمثل عائقا حقيقيا فى تحقق ديمقراطية قوية حقيقية جوهرها مشاركة المواطنين لسببين هما: الأول: الفساد الذى طال النخبة السياسية. والثاني: توجيه أغلب الامتيازات لصالح القلة.

لهذا تنبأ”باربر”(صاحب المرجع الشهير حول العولمة: الجهاد فى مواجهة ماك)، بضرورة تأسيس ديمقراطية تتسم بما يلي: أولا: التشارك. ثانيا: القبول بقدرة المواطنين على الشراكة وأن لديهم ما يقدمونه. ثالثا: أن العملية الديمقراطية عملية مستمرة حيث تزيد فيها حيوية المواطنين ولا تنقطع قط علاقتهم بالسياسة. وهذا هو جوهر الديمقراطية القوية، حيث تنمو باطراد:” مشاركة الناس فى كل صغيرة وكبيرة فى أمور الحياة اليومية،أو بتعبير أدق تكون أقرب إلى:”الحكم الذاتى للمواطنين،وليس الحكم باسمهم أو تمثيلهم.”

ومع التقدم التقنى غير المسبوق فى تاريخ الإنسانية، أتيح للفرد أن يمتلك التقنيات التى تجعله يتواصل مع الواقع مباشرة دون وسطاء. أى ’’يستغنى‘‘ أو يتحرر عن أية تبعية. ولم تتوقف هذه الميزة عند حدود الاجتماعى إنما تجاوزته إلى الثقافى والسياسي. فأمكن للمواطن أن يعبر عن نفسه مباشرة دون وسطاء. كما بات قادرا على أن ينتظم فى مجموعة أو حركة سواء على المستوى المادى أو “الأثيري” لممارسة: الضغط، والاحتجاج، أو التأثير فى الرأى العام، أو تصحيح المعلومات،...،إلخ. أو بحسب “توفلر” ممارسة نوع من “الديمقراطية شبه المباشرة”. وهنا لابد من الإشارة إلى ما قدمه المثقف الموسوعى الأستاذ راجى عنايت فى هذا المقام مبكرا(يمكن مراجعة ديمقراطية جديدة لمجتمع المعلومات ـــ دار العين 2010).

فى هذا السياق، تكونت حركات مناهضة العولمة، وأسواق المال، والدفاع عن البيئة،ومجموعات التواصل الاجتماعي،...،إلخ. وأخيرا الحركات القاعدية الممتدة والتى وصفها الكثيرون بالشعبوية. إلا انها أعقد من الشعبوية بمعناها القديم ذات الدلالة اليمينية، أو الفاشية، أو الفوضوية،...

إنها حركات جماهيرية ـــ كما قمنا بوصفها فى مقالاتنا فى هذا المكان والتى تناولنا فيها التحولات الداخلية فى عديد الدول مثل: البرازيل وإيطاليا وأمريكا واليونان وفرنسا. وفى القلب من هذه التحولات الحركات البازغة فيها من خارج البنى التقليدية الحزبية والسياسية. وقد أشرنا إلى أن هذه الحركات: لا تتكون بالضرورة من عناصر متجانسة في: المصالح، والجيل، والطبقة،...،إلخ. وإنما من كتل جماهيرية متنوعة تتقاطع فى مساحات وتختلف فى أخرى. حيث تلتئم فيما هو متوافق عليه لتحقق مصالحها. ويمكن أن ينفض اجتماعها لصالح حركة أخرى.

ومن محصلة دراسات جارية حول هذه الظاهرة وجد أن هذه الحركات تتسم بما يلي: أولا: رفض الوسطاء. ثانيا: رفض البنى التقليدية القديمة التى لم تعد تحقق مصالحها وإنما مصالح القلة. ثالثا: رفض التلاعب بمصالحها وبعقولها وبحقوقها. وإذا ما راجعنا أول حديث للسيدة التى حظيت بمنصب عمدة روما لقناة يورونيوز سوف نجدها تركز على ما يلي: ضرورة وقف فساد النخبة السياسية التقليدية. وإعادة بناء بنى المجتمع من القاعدة إلى القمة. وانجاز ما سبق من خارج ما هو قائم.

لذا نجحت هذه الحركات من خارج الأحزاب التقليدية مثلما هو حال: حركة الخمس نجوم فى إيطاليا وحركة سيريزا فى اليونان، وبوديموس فى أسبانيا. كما نجح ترامب من خلال كتل جماهيرية من خارج الحزب الجمهوري. كما كان ساندرز يعتمد على شباب يسارى بازغ من خارج الحزب الديمقراطي.

لذا لا ينبغى اختزال ما يحدث فى أوروبا وامريكا فى أنها شعبوية جديدة...إنها حركة المواطنين العاديين الذين: ضاقوا بالوسطاء وأبنيتهم القديمة، ويرفضون الانتقاص من مواطنيتهم...ولسان حالهم “إحنا الشعب”...نتابع..


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern