«البيوريتانيون الجدد»

«البيريتانية: الطُهرية»؛ هى حركة دينية وفكرية، وسياسية، عرفتها أوروبا فى القرون الوسطي. فى لحظة تاريخية كانت القارة الأوروبية تشهد فيها تحولات مركبة على جميع الأصعدة. اتسمت هذه الحركة «بالتشدد»، وباتخاذ مواقف حادة من المجتمع، والعالم، انطلاقا من الالتزام الحرفى للنصوص الدينية. 



لم يقتصر الأمر عند إعلان المواقف وإنما تعداه إلى الحكم على مواطنيهم «بالأثم»؛ استنادا إلى تصور نابع من أنهم يملكون الحقيقة المطلقة وحدهم دون غيرهم. ما يمنحهم الحكم على الفكر، والإبداع، وفاعليات الشأن العام بأنواعها.. والثابت تاريخيا،أن هذه النوعية من الحركات، يتنامى دورها فى الأزمنة التى يعجز فيها النظام المعرفى السائد عن توفير إجابات للأسئلة المجتمعية المتراكمة فى شتى مناحى الحياة. كذلك، لقطع الطريق عن أية محاولات جادة لتجاوز هذا العجز وتقديم إجابات مبدعة وجديدة دافعة بالمجتمع نحو التقدم. أى أن يبقى الحال على ما هو عليه. 

وقد استوقف ماكس فيبر، عالم الاجتماع الشهير، كيف أن هذه الحركة المتشددة قد تماهت مع أسوأ أنواع الرأسمالية. أو ما يصفه «بالرأسمالية المنبوذة» التى تقوم على المضاربة لا الانتاج. حيث الثانية تقوم على العلم والتجريب والمعمل والابتكار الدائم من أجل الفوز فى التنافس. بينما المنبوذة تقوم على الفهلوة والصفقات السريعة. وشتان بين الأمرين. 

وقد أفاض كل من جورج سباين مؤلف موسوعة:»تاريخ الفكر السياسي»،(المجلد الثالث، ترجمة راشد البراوي). وكرين برينتون، مبدع الكتاب العمدة:»تشكيل العقل الحديث»(ترجمة أستاذنا المثقف الكبير شوقى جلال) فى تفسيرهما للظاهرة وملابساتها، وتعقيداتها، من زوايا متنوعة. والتى يمكن إيجازها فى أنها ظاهرة تنشأ فى لحظات التحول الكبرى التى تتهدد فيها مصالح «القديم» وتصبح هناك ضرورة ماسة فى التأسيس «للجديد» على كل المستويات: الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية. 

وقد تكررت هذه الحالة أوروبيا فى مرحلة لاحقة ــ مطلع القرن التاسع عشر ـــ فى ظاهرة ما يعرف فى الأدبيات «بالحلف الاسود»:»الإقطاع الاستبدادى الأوروبي، فلول النبلاء، والجماعات/المؤسسات الدينية المتشددة». وذلك لإعاقة تطبيق مطالب القوى الجديدة البازغة المنادية «بالحرية والإخاء والمساواة»، من جهة. والحيلولة دون الانخراط بجدية فى الثورة الصناعية كنظام انتاجى أكثر تطورا. 

نشط «البيوريتانيون»، مرة أخرى فى الولايات المتحدة الأمريكية فى الثلث الأخير من القرن العشرين، تحت اسم «اليمين المسيحى الجديد». ولم يكن ــــ هذا اليمين ــــ يحمل أى جديد، سوى أنه طبعة جديدة من البيوريتانية القديمة وقد تبلور بفعل القوى المحافظة السياسية والثقافية لمنع تيار المسيحية الجديدة ـــــ والذى حمل رؤى تجديدية فى الفكر والخطاب والممارسة واكبت صحوة الحركات المدنية والاجتماعية الأمريكية فى الستينيات ــــــ من النمو. لذا نظم هذا التيار نفسه، سياسيا، متحالفا مع اليمين المحافظ الجديد، إبان إدارة بوش الإبن، الذى كان يعبر عن لوبى النفط، لإشاعة حالة محافظة بامتياز تحاصر التحولات الكبرى فى الداخل الأمريكي(وقد درسنا هذه الحركة وتحالفها التاريخى تفصيلا فى كتابينا:الحماية والعقاب ـــ 2000، والإمبراطورية الأمريكيةـــ 2003). 

ويبدو لى أن «البيوريتانية» فى صورتها الأولي:الدينية القح. وفى صورتها المتجددة: الدينية/الثقافية/السياسية، التى ظهرت عليها من خلال: «الحلف الأسود»، فى أوروبا. و«اليمين الدينى الجديد»، فى أمريكا. لا تختلف كثيرا عن ما يمكن تسميته «بالبيوريتانية الجديدة» التى باتت تتحرك بكل وضوح ـــ وبشرعية ـــ فى واقعنا الراهن منذ انطلاق حراك 25 يناير. 

فلقد تعرضت موجة الحراك التى انطلقت فى 25 يناير إلى العديد من التوابع ولكن المضادة التى لم تمكنها من تطوير الفعل التغييرى بأريحية. فبداية من استفتاء 19 مارس الأشهر الذى تحول بسبب فتوى دينية إلى عراك بين رؤيتين تقصى كل منهما الأخري. ومرورا بالاعتراض على السلام الوطني،وعدم التعييد على غير المسلمين، ونهاية بالتطاول على قيمة ابداعية مثل نجيب محفوظ. فإن الأمر لم يعد مجرد حق فئة فى التعبير عن نفسها وإنما تجاوزه إلى فرض رؤية على الآخرين انطلاقا «بتمايزها». وأظن أن هذا يحمل خطرا علينا جميعا. 

وأنا ليس لى أى اعتراض ـــــ من منظور المواطنة ـــــ عن حق أى مواطن أو اتجاه أن يعبر عن نفسه كيفما شاء، شريطة ألا يعنى ذلك: اولا: إعاقة التغيير،و ثانيا: التناقض مع أسس ومقومات الدولة الحديثة ودستورها، التى بنيت ــــ ولم تزل بنضالات المصريين على اختلافهم بغير خصومة مع الدين ــــ . وثالثا: إقصاء أو تكفير المختلفين. وأن يتم ذلك تحت تصور»رؤية نقية» تتسلح بالقداسة والعصمة. 

وبالرغم من أن تمرد 30 يونيو يمثل انحيازا مهما ضد هذا التصور. إلا أن «البيوريتانيين الجدد» ظلوا على نهجهم(ونشير فقط إلى أنه نهج لا يمس من قريب أو بعيد أى سياسة اقتصادية قد تتعارض مع الكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية. ما يحتاج إلى دراسة تفصيلية). ما يمثل عائقا حقيقيا أمام فرص التقدم...ويتناقض مع الدستور...وطبيعة الدولة المصرية التاريخية التعددية بالمعنى الحضاري...نتابع...
لمزيد من مقالات سمير مرقس;


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern