أحوال صحة المصريين

أظن أنه قد حان الوقت أن نوقف كثيرا من المقولات التى من ضمن تكرارها صدقناها فباتت حقائق. والتى منها: «انفصال البحث العلمى عن الواقع» و «أن الباحثين يتكلمون كثيرا وينظرون ولا يقدمون حلولا علمية قابلة للتنفيذ»...إلخ. ذلك لأن المتابعة المتأنية تشير إلى أن فى مصر أجيالا قديمة وجديدة من المبدعين والمفكرين فى شتى حقول المعرفة ليست مدرجة على الخريطة النمطية الرسمية.



فى هذا المقام، وقع فى أيدى العدد الجديد من مجلة أحوال مصرية الفصلية، التى تصدر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. (وهى الدورية التى أسسها عام 1989 المفكر الكبير محمد السيد سعيد)... ويرأس تحريرها الدكتور أيمن السيد عبد الوهاب(أحد اهم الباحثين فى مجال المجتمع المدنى والسياسات العامة)، ويدير تحريرها العزيز الدكتور يسرى العزباوى (وقد أنجز رسالة متميزة عن الأقباط)حيث تناول العدد «قضية الصحة ومستقبلها فى مصر» (فيما يقرب من 200صفحة). طالعت العدد وأعجبت به إعجابا شديدا من حيث: أولا: المنهجية التى قاربت بها الدورية قضية الصحة. وثانيا: التناول الشامل لكل جوانب الشأن الصحى بأبعاده المتعددة.

أولا:فيما يتعلق بالمنهجية؛ يقدمها لنا الدكتور أيمن من خلال مقدمة بديعة عنوانها: «صحة المصريين وقنديل أم هاشم»؛ حيث جاء بها: «مع تنامى الحديث عن السياسة الصحية، وما يكتنفها من قصور وتحديات ومتطلبات تفعيل، ظل الحديث عن علاقتها بباقى السياسات العامة، خافتا، وقاصرا عن تناول متطلبات التكامل بين هذه السياسات وأهمية التنسيق فى إطار رؤية شاملة لمتطلبات الاهتمام بصحة المواطنين وتحقيق سلامة المجتمع.

إن الحديث عن النظام الصحى أو السياسة الصحية بمعزل عن باقى السياسات، يشير إلى قصور واضح فى التناول الكلى لملف صحة الإنسان المصرى وما يطرحه من أبعاد تتعلق بالتنمية وبناء الدولة، كما أن التشابك بين السياسات الذى تقدمه رؤية التنمية المستدامة 2030 وما تتضمنه من مؤشرات للتقييم والمتابعة، يطرح بدوره العديد من الإشكاليات والتحديات المتعلقة بملف الصحة بشكل غير مباشر تتعلق بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن تحديات تتعلق بالواقع الثقافى والقيمى ومستويات المعرفة والوعي»..

.يضع، «عبد الوهاب» من البداية قاعدة مهمة للتعاطى مع ملف «الصحة» (وأظن مع أى ملف آخر) تؤكد على ضرورة توافر رؤية شمولية من أجل أن نحرز تقدما فى مجال الصحة. أو «تناول كلي» بتعبير عبد الوهاب، يشمل: البيئة التشريعية، والكوادر، والموارد، والعلاقة بباقى السياسات، بالإضافة إلى وعى الناس، وثقافتهم.ومن ثم إبداع منظومة صحية، تكون استجابة لحاجتنا إلى: «نظام صحى كفء وفعال وعادل». نظام مكتمل المكونات والعناصر كما يلي: رعائية، ووقائية، وتأمينية، وريادية فى مجال صناعة الأدوية الحساسة والحرجة والحقيقية، وخدمية، بالإضافة إلى التوعية الثقافية لمواجهة القيم والعادات الثقافية الضارة فى مجال الصحة، وأخيرا كيفية الربط بين ما سبق من مكونات بالنموذج التنموى المنشود. ولم يفت العدد أن يناقش أدوار القطاعات: الحكومي، والخاص والمدنى فى سياق التأسيس لمنظومة صحية مصرية.

ثانيا: أما فيما يتعلق بتناول دورية أحوال مصرية للشأن الصحى بأبعاده المتنوعة؛ سوف نجد دراسات تناولت ما يلي: الاستراتيجيات والسياسات الصحية من منظور مقارن. والنهوض الدوائى فى مصر. والرعاية الصحية. وتأسيس لنظام صحى كفء وفعال وعادل. ومعالجات لقضايا: أولا: تمثل إعاقات لأى نظام صحى مأمول مثل: التلوث البيئي، واستخدام مبيدات وهرمونات ضارة. وثانيا: تتعلق بالتشريعات المطلوبة فى مجال الصحة. وثالثا: مُلحة ترتبط بمقاومة الأمراض المتوطنة وسوء التغذية ومعالجة صحة المصريات. ورابعا: تختص باقتصاديات الصحة. وخامسا: ثقافية لمواجهة الموروثات الصحية الضارة . وتدعم أحوال مصرية كل ما سبق بملحق إحصائي. وبدراسة ميدانية حول الخدمات الطبية فى المستشفيات العامة فى مصر.

والملاحظ أن القائمين على العدد، قد حرصوا على أن تعكس الدورية تنوعا جيليا، وحضورا حكوميا لخبراء «أيديهم فى الميدان» وخبراء لديهم خبرات دولية ومحلية من خلال المجتمع المدنى من الممارسين والأكاديميين.وفى المحصلة، يمكن القول أن «أحوال مصرية» قد استطاعت أن تقدم نموذجا معرفيا لقضية شائكة وحساسة تمس المصريين بشكل مباشر فى حياتهم اليومية.

نموذج معرفى يعبر عن قدرة العقل المصرى المعرفى من الباحثين والخبراء المثقفين أن يغذى الجهاز التنفيذى بشكل عام وفى مجال الصحة بشكل خاص ـــ بما يحتاجه من أفكار وتشريعات وسياسات ومقترحات عملية.

فالملاحظ أن هناك تشريعات لا تلتفت لهكذا معرفة. ويقينا تكون السياسات بعيدة كل البعد عنها. لأنه لو كنا ننتبه لمضامين الاجتهادات المطروحة من عقول مصر. ما كنا وصلنا إلى هذه الحالة «الحرجة» من فقدان التوجه، وعدم التراكم، والتعالى على العلم والمعرفة،...،إلخ. ولعل أزمة الدواء خير دليل على ذلك. وفى هذا المقام نعرض تفصيلا فى مقالنا القادم لدراسة الخبير الوطنى الكبير الدكتور محمد رءوف حامد حول الدواء الواردة فى «أحوال مصرية» الدورية التى تستحق كل تحية...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern