نوبل للآداب: بوب ديلان ينتصر للجديد

«أولادكم وبناتكم صاروا خارج امرتكم وسيطرتكم...فطرقكم القديمة قد انتهت سريعا، من فضلكم ابتعدوا عن الطرق الجديدة...طالما لا تقدرون أن تمدوا أيديكم

لأزمنة جديدة قيد التغيير......»



الكلمات السابقة أطلقها «بوب ديلان» (1941 ـــ )، مطلع الستينيات، وكانت بمثابة التمهيد «لمانفيستو التغيير»، الذي عبر عنه من خلال مجمل كلمات أغانيه لما هو آت من تحولات لابد للعالم أن يدركها.وقد قمت بترجمتها منذ أكثر من عام في نهاية مقال لي بـ «الأهرام» عنوانه: «مدوا أيديكم أو ابتعدوا» (مارس 2015). وذلك في إطار سلسلة مقالات عن واقع الشباب المصري. حيث درست وقتها حركة الشباب في الستينيات والتي تعد مرجعا لأي بحث عن الشباب في أي مكان آخر وزمان لاحق.

وآنذاك ـــ وبعد قراءات عديدة ـــ أدركت أهمية الحراك الشبابي القاعدي، بتجلياته المتنوعة،في مواجهة «المؤسسات الأبوية المتعددة». ومعنى التضامن الشبابي الذي تم نسجه بين فئات شبابية متباينة الطبقات، والأعراق، والحدود. يجمعهم الموقف من «الكبار». الذين يحشدونهم في الحروب، أو يحرضونهم على التمييز، أو يستغلونهم في تعميق الفجوات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية،والثقافية.

أدركت، أيضا أهمية بوب ديلان: «كشاعر وكاتب أغان، وموسيقي، ومغني، ومثقف كبير». ودوره المؤثر في حركة الاحتجاج التي اجتاحت أمريكا عبر فنه الجديد. وفضله على الكثيرين من المغنيين والفرق الموسيقية التي ظهرت وقتها ولاحقا. بالإضافة إلى انخراطه في العديد من الحركات الثقافية والمدنية مثل: «حركة شعراء وكتاب حركة البتنيكس الذين كانوا يتبادلون قراءة انتاجهم في نوادي الجاز»، «ومنتديات الشعر المعروفة في أمريكا وأوروبا». وكيف أن بعض أغانيه قد تم اختيارها ضمن أحد أهم 100 اغنية في التاريخ الإنساني لأنها تعبر عن «آلام وأمال» الإنسان البسيط: المقهور، والمضطهد، والمهمش، والمُستغل،... في كل زمان ومكان.

وبالعودة لثلاثة كتب مرجعية حول الستينيات والتي وضح دور «بوب ديلان فيها». وكلها كتب بدأت بأرقام سنة من سنوات الستينيات كما يلي: أولا: كتاب«1963: سنة الثورة» (2013). وثانيا: كتاب«1966:السنة التي فجرت عقد الستينيات» (2015). وثالثا: «1968: تاريخ من الاحتجاج والحيوية السياسية من 1956 إلى 1977» (2008). حيث تناولت الكتب كيف تحرك شباب المركز في أمريكا وأوروبا في محاولة تغيير العالم بالموسيقى، والفن، والثقافة. وكيف أن بوب ديلان كان أحد أهم المحركين لهذه المحاولة الكبيرة التي أظنها لم تزل ممتدة إلى يومنا هذا في النضال من أجل حياة أكثر عدلا، وأمنا، وحرية.

ويتفق الباحثون على أن بوب ديلان والبيتلز «فتنا الملايين خلال مطلع الستينيات في وقت قليل. وإذا ما أُعتبر أعضاء فرقة» البيتلز هم واجهة التغيير، وعناصره الأشهر، الذي انطلق في الستينيات.

فإن « ديلان» يعد هو «المبشر» بالتغيير. و«الملهم» له، و«الأب الروحي» لعديد الفرق والنجوم الذين ظهروا في الستينيات وما بعده، و«الحامل» لمشعل التجديد لفن الناس...

ومن جوانب التجديد لـ «ديلان» نرصد ما يلي: أولا: قدرته على استيعاب لغة الناس في الحياة اليومية وإعادة توليفها في صياغات لغوية وصور شعرية متعددة مستويات التلقي. ثانيا: قدرة ديلان على الاشتباك مع إشكاليات الواقع المختلفة والتعبير عنها ببساطة وعمق. ثالثا: نجاحه بامتياز عن التعبير عن «العالم الجديد الذي يحلم به الشباب» ولايزال. رابعا: حرصه على أن يتحدث باسم الناس أو يتوجه بحديثه إليهم. فجاءت أغانيه حقيقية وصادقة غير مفتعلة فالمستمع يجد نفسه فيها ولم ولا وهو يعد شريكا في صنع الأغنية. خامسا: حرر كلماته من «الكليشيهات» والكلمات النمطية المبتذلة والمتكررة.

لم يزل بوب ديلان يبدع حتى يومنا هذا. فمنذ أصدر ألبومه الغنائي الأول، بقي ينتج ألبوما سنويا ـــ تقريبا ـــ حتى 1997 . وتوقف، وعاد في 2001 بألبوم «حب وسرقة». و2006 بألبوم «أزمنة حديثة». و2009بألبوم «معا في الحياة»...و2016 بألبوم «الملائكة الساقطون».

وبالرغم من بعض الانتقادات التي وجهت للجنة نوبل للآداب لاختيار ديلان على حساب باقي الأجناس الأدبية الكلاسيكية. إلا أن المتتبع للجنة نوبل تاريخيا سوف يجد أن هناك سوابق كثيرة لهذا الأمر. (الجائزة التي ذهبت لبيورنشترنبيورنسن النرويجي الفنان الشامل عام 1903 قبل ابسن). وأظن أنه لا ينبغي التعاطي معها بمعايير القديم والجديد في واقعنا على طريقة «معركة شعر العامية وشعر الفصحى في مصر». وإنما في ضوء ما أُطلق عليه «ديمومة التحول» في المجتمعات المتقدمة. التي تعكس حيوية وحركية مجتمعية ثقافية تسمح بحضور كل ألوان الطيف الثقافي. فالشعر الغنائي يمكن أن يُقارب أكاديميا. وأن يحظى بجوائز...ونختم ببعض كلمات ديلان:

كم مرة ينبغي للمرء أن يرفع عينيه/قبل أن يبصر السماء؟

كم من الآذان ينبغي أن يملكها المرء...قبل أن يسمع بكاء الآخرين؟

وكم من الوفيات يجب أن تحدث قبل أن ندرك...أن الكثيرين ..الكثيرين ...قد ماتوا؟

الجواب، ياصديقي، في مهب الريح...

وبعد ألم تنتصر الجائزة للجديد...نتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern