حركة لاهوت التحرير.. دروس مستفادة

تجربة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية من التجارب الجديرة بالاهتمام والدراسة. فلقد تكامل فيها ’’التجديد الديني والحركة الاجتماعية‘‘. لذا عُدت من أهم الحركات الاجتماعية الدينية التقدمية في النصف الثاني من القرن العشرين...لماذا؟لأنها قدمت نموذجا تقدميا للتفسير الديني انحاز للفقراء والمعدمين والمهمشين والمستضعفين في الأرض. وصاغت رؤية للتغيير الاجتماعي عكست’’جدلا مبدعا‘‘ بين النصوص الدينية ومناهج علم الاجتماع والفلسفة.. إلخ، المحدثة آنذاك. في إطار فهم علمي رفيع المستوى للمسار التاريخي للقارة اللاتينية.والأسباب التي وصلت به إلى الواقع الاقتصادي/ الاجتماعي الأليم.

وفي نفس الوقت انخرط قادة الحركة يعيشون بين هؤلاء الفقراء على المستوى القاعدي من خلال حلقات قاعدية للتكوين الديني/ الثقافي هدفوا من خلالها إلى إيقاظ الوعي، وإطلاق قدرات المهمشين في أمور فاعلة. وعي حقيقي وصادق حول الواقع وأسباب ما هم فيه استنادا إلى الفهم والمعرفة بالقوانين الموضوعية الحاكمة لحركة المجتمع. وكيفية التحرر من كل ما يقيدهم: روحيا، ومجتمعيا. وفي هذا المقام وجد المواطنون في عناصر حركة لاهوت التحرير رجال الدين لديهم اهتمامات أخرى غير اكتناز المال وتبرير مصالح سلطة ’’الكريول‘‘ (طبقة تحالف الإقطاع ورجال الدين والسلطة التابعة وقد أشرنا إليها في مقالنا السابق)، من أجل بقاء الأمر الواقع على ما هو عليه.

وربما يكون من المفيد بعد مرور نصف قرن على انطلاق الحركة، و45 عاما على صدور الكتاب الذي يُنظر للحركة بقلم جوستافو جوتييريز: «لاهوت التحرير، أن نطرح السؤال التالي: لماذا أثرت حركة لاهوت التحرير في واقع أمريكا اللاتينية؟ وما سر نجاحها بالرغم من المعارك التي فرضت عليها؟ يمكن أن نجيب إجمالا على ما سبق بالآتي:

أولا: عنيت حركة لاهوت التحرير من خلال طليعة شابة انفتحت على المعارف الحديثة ووظفتها في تجديد النصوص الدينية بما يجعلها تستجيب لواقع الناس وحياتهم اليومية ومن ثم تجديد الواقع. وذلك في إطار رؤية متكاملة للإنسان الحر، والمجتمع الناهض، والعالم في شموليته. وتشمل الرؤية: الفكر والخطاب، والممارسة.

ثانيا: ساهم السياق الاجتماعي المأزوم في أن تجد هذه الرؤية التحررية التقدمية استجابة مجتمعية كرؤية بديلة للرؤية المحافظة ــ والتابعة للسلطة ولطبقة الإقطاع ــ السائدة عبر قرون والتي بسببها ساءت الأوضاع.

ثالثا: وجود طبقة قادرة على أن تستلهم الرؤية التحررية في نضالها المدني والسياسي لاحقا مع حفظ المسافة بين الديني والمدني. أو بلغة أخرى استلهم الناس قيمة «التحرر» في كل نضالاتهم السياسية والمدنية في مواجهة حالة «الأسر» المجتمعية الشاملة التي كانت تقيدهم. رابعا: لم تعتمد العنف قط، وإنما التمكين بالمعنى التنموي في دعم الناس لأن يتحرروا بإطلاق إمكاناتهم. ثم حق كل مواطن في الانتماء إلى التيار الفكري والسياسي الذي يريد في المجالين المدني والسياسي.

وليست صدفة أن تولد في نفس الوقت مدرسة التبعية في أمريكا اللاتينية. وهي المدرسة الاقتصادية التي استطاعت أن تحلل الوضع الاقتصادي في دول القارة والصراعات الحادة التي شهدتها وتمثل ذروة الأزمة الاقتصادية بعد الاستقلال، بين ثلاث جماعات أساسية: الأولى: تمثل أصحاب المصالح الزراعية والتجارية الذين يسعون إلى الارتباط بالمصالح الأجنبية ومن ثم تدعيم التخلف. والثانية: تضم أصحاب المصالح الصناعية الذين يعملون على مستوى محلي ويخضعون لحصار خارجي دائم. والثالثة: فتضم الأجانب الذين يحتكرون الصناعات الرئيسية في البلاد...وعادة ما تنتهي الصراعات لصالح الأجانب والرأسمالية التابعة لها في الداخل. ويكون ذلك على حساب التنمية الوطنية. ويترتب على ما سبق تدعيم الاقتصاد التقليدي والحيلولة دون تحديثه ما يصب في مصالح قوى عديدة، ما يضمن تبعية هذه الدول للاحتكارات العالمية. أبدعت مدرسة التبعية في هذا الاتجاه. ونذكر هنا كتبا مرجعية هامة منها: الرأسمالية والتخلف لأندر فرانك الذي صدر في 1969 وغيره.

وهكذا استجابت الابداعات اللاهوتية والاقتصادية للتحديات المجتمعية. وعليه كان من الطبيعي أن تكون الفكرة المحورية في كل من: لاهوت التحرير ومدرسة التبعية هي: «التحرر الكياني والاقتصادي في إطار التنمية الشاملة المستقلة.

الخلاصة، تقول تجربة لاهوت التحرير. أن التجديد الديني هو تجدد في الرؤية بعناصرها: الفكر والخطاب والممارسة، لا يمكن أن يتم بغير وجود عناصر طليعية منفتحة على جديد المعارف ما يجعلها قادرة على الاستجابة المبدعة للتحديات المجتمعية. ثم طبقة ترى أن وجودها واستمراريتها هي بأن تكون رافعة اجتماعية لقيم الرؤية الدينية الجديدة. وتناضل في سبيلها في الإطار المدني والسياسي. هكذا كانت تجربة أمريكا اللاتينية، حيث خرجت من حلقات النقاش التحررية الثقافية عناصر انخرطت في المجال العام وفق انتماءاتها المتنوعة. وفي المقابل تبلور طليعة مجددة في كل مجال: الفلسفة، والسياسة، والفنون، وعلم الاجتماع..إلخ. بحيث يلتقي التجديد الديني بالتجديد المعرفي من أجل تحرير الانسان والمجتمع من «حالة الأسر» التي تعطل فرص تقدمه، وتشل إمكاناته...وذلك «بتحريك» وبث الحيوية في مجالات الحركة المتعددة. و«تحديث» منظومة القيم الثقافية الاجتماعية السائدة .. ونتابع.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern