فى نهاية الثمانينيات وقع فى يدى كتاب عنوانه: «لاهوت التحرير» وكان مكتوبا بلون الذهب، وملحق بالعنوان الرئيسى عبارة فرعية تقول: طبعة جديدة فى ذكرى مرور 15 عاما على صدور طبعته الأولى فى 1971. طبعة مزيدة بمقدمة جديدة للمؤلف جوستافوجوتيريز، أستاذ اللاهوت من بيرو، والذى تعلم فى تشيلي...
أطلعت على فهرس الكتاب ومقدمته ومصادره فوجدت نفسى أمام «فتح» معرفى جديد. فعكفت على قراءة الكتاب حتى انتهيت منه. وكان الكتاب بمثابة آلة زمن انتقلت من خلالها إلى عالم القارة اللاتينية بكل ما تحمله من: تاريخ حضاري، وزخم انسانى تعددت فيه الحضارات، والمدنيات، والقبائل، التى عرف بعضها درجة عالية من التقدم والتطور والمعرفة. حيث ازدهرت صناعات حرفية عديدة، وعلاقات تجارة وتبادل للمنتجات، وتكونت بفعل ذلك تجمعات مدنية وزراعية تعتمد على انتاج الذرة والحبوب. كما تكونت حضارة انسانية عرفت الكتابة والحساب، وعاشت فى مدن حضرية ذات مساحات ممتدة وكثافة سكانية معقولة كانت سابقة على أوروبا.
لذا لم يكن غريبا أن تركز البرازيل فى الحفل الافتتاحى لدورة ريو التى انتهت مؤخرا على تطورها «الحضاري» فى الماضى والحاضر باعتباره أحد أهم السمات الحضارية التاريخية من جهة، واحد أهم انجازاتها فى الحاضر من جهة أخرى.
وبالتوازى لما سبق، يعد التاريخ الاقتصادي/الاجتماعى للقارة اللاتينية من التواريخ الأكثر إثارة فى تاريخ البشرية نظرا للانتهاكات التى تعرض لها أبناء القارة اللاتينية. والتى وصفتها فى دراستى عن تجربة لاهوت التحرير(الأولى باللغة العربية فى مصر ونشرت بمجلة القاهرة ــ يناير 1994، والتى استكملتها مؤخرا مع ترجمة أحد النصوص التأسيسية التى تمثل نواة الكتاب الذى نتحدث عنه) بأنها عبارة عن: «تاريخ ممتد من النهب الاستعماري». فلقد عرفت الموجات الكشفية/الاستعمارية الطريق إلى القارة اللاتينية فى نهاية القرن الـ15 وتحديدا فى سنة 1492.ومنذ ذلك التاريخ عرف اللاتينيون «عملية مركبة من القهر». من ملامحها: أولا: نزح مواردها وثرواتها من قبل الأوربيين. وثانيا: التعرض للاستيطان الأوروبى الذى جرى على حساب السكان الأصليين (أو ما يعرف بالاستيطان القسرى أو استيطان الغزو). ثالثا:تحكم الأوروبيون فى بلورة شكل النظام الاقتصادى ليكون ــ بحسب سمير أمين ــ فيتراوح بين: «شبه اقطاعي، وشبه عبودي، وعبودى بالكامل».
بدأت التبعية اولا لأوروبا ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع مطلع القرن ال19 من خلال ما عرف بمبدأ مونرو(1821)الذى اعتبر امريكا اللاتينية الفناء الخلفى لأمريكا. واستمر القهر وتم توظيف الدين. وتشكلت ما يعرف «بطبقة الكريول» «Creole»؛والتى تتألف من «الإقطاع، ورجال الدين، والسلطة التابعة».
فى هذا السياق لعب رجال الدين دورا محافظا لإبقاء الأمر الواقع على ما هو عليه، فى صالح الأغنياء. والنتيجة أن وصلت القارة اللاتينية إلى وضع بائس. مما دفع بجيل من رجال الدين المحليين ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى تنظيم ما عرف تاريخيا «بلقاء أساقفة أمريكا اللاتينية الأول» فى عام 1955، إيذانا باهتمام الكنيسة بالمشاكل الاجتماعية. وظنى أنه كان من العناصر الضاغطة على الفاتيكان فى تنظيم مجمعها الشهير فى مطلع الستينيات.
فى هذا السياق، بلور جوستافوجوتيريز تعبير لاهوت التحرير من خلال محاضرة ألقاها فى بيرو عام 1967. وتحدث فيها عن: «الفقر فى العالم الثالث والتحدى الذى يمثله فى تنمية استراتيجية رعوية ووطنية تسعى إلى تحرير الإنسان من كل أشكال القهر والتبعية». وتوالت الأوراق والأبحاث واللقاءات والمداولات والتشكيلات المجتمعية التى تلتزم «بالقضاء على الفقر/القهر ومسبباتهما». وجاء صدور كتاب لاهوت التحرير عام 1971 ليلهم أجيالا من اللاهوتيين والممارسين التنمويين والشباب بضرورة تغيير الواقع سلميا من خلال الفعل الإيجابي.
ويعكس الكتاب أن رجال الدين فى القارة اللاتينية انفتحوا على جديد علم الاجتماع من ماركس إلى مدرسة فرانكفورت. وعلى الفلسفة من هيجل إلى ألتوسير. وعلى نظريات التنمية المحدثة. وعلى الأدب. بالإضافة إلى اللاهوت ــ بطبيعة الحال ـــ شرقه وغربه. وفى المحصلة تبلور تيار لاهوت التحرير. والذى يقدمه جوتييريز فى الآتي: أولا: اللاهوت ليس فقط حكمة عقلية مجردة. بل هو تفكير فى ضوء الإيمان يتفاعل مع الممارسة التاريخية للناس. يكافح معهم ضد القهر والظلم وينتقد ما يحتاج إلى نقد وخاصة هياكل الاستغلال والاستبداد والتبعية. ثانيا: إعادة تأويل النصوص الدينية وربطها بالسياق المجتمعي. وتفعيل طاقة التغيير لدى كل مواطن من أجل تجاوز التخلف. والتطلع إلى الواقع الجديد.ثالثا: يجتهد جوتيريز فى هذا المقام فى تقديم رؤية لمفهوم التنمية تتجاوز فكرة النمو الاقتصادى إلى التنمية الشاملة لا سقف لها. عليها ألا تقف عند النمو الاقتصادى أو التحديث الشكلي. مما سبق يبلغ الإنسان «التحرر» من كل ما يقيده...عانت الحركة من عنت المؤسسة...إلى أن جاء على رأسها أحد الذين تأثروا بها. كتاب لاهوت التحرير تعبير عن تيار مثل نموذج للتنوير/لتجديد الرؤية/الفكر/الخطاب الديني، بامتياز...فما سر انطلاقها...ونتابع...