كنت أنوى أن أكتب عن التوتر الديني: درجاته، وأنواعه، وكيفية مواجهته...وبالفعل شرعت فى جمع مادة كتابة المقال. وأثناء ذلك نشرت جريدة الأهرام تقريرا عن الأوضاع فى المنيا يوم الإثنين الماضى من إعداد حنان حجاج، استطاع التحقيق أن ينقل واقع الأحوال فى محافظة المنيا التى بات معدل أحداث التوتر الدينى بها يتسارع بصورة غير مسبوقة.
ما يؤثر على العلاقات بين المصريين من المسلمين والمسيحيين لدرجة تصبح فيها الحياة بينهما أقرب إلى حياة ملغومة وغير آمنة. ما لفت نظرى فى التحقيق هو أنه استطاع: أولا: ان يدخل إلى عمق الحالة المتوترة والأقرب إلى أن تكون متفجرة. وثانيا: فتح التحقيق مساحات جديرة بالنقاش بين الباحثين، بهدف تلمس رؤى وسياسات قابلة للتعاطى مع الحالة المتوترة مهما كانت درجة توترها. لقد كان التحقيق ملهما فى أن يطرح فكرة أساسية لا يمكن الفكاك منها هي: إنه لم تزل هناك (مجتمعات تعيش مكوناتها بذهنية وثقافة وقيم الجماعات الأولية. بالرغم من عراقة الدولة الحديثة المصرية).
فمن خلال المراجعة المتأنية للوصف الإجمالى الذى أبدعت فيه الأستاذة حنان حجاج لأحوال البلاد والعباد فى المنيا، من جهة. ولتحليل مضمون ما جاء على لسان من قابلتهم هناك، من جهة أخرى. يمكن أن نستخلص أننا أمام سياق مجتمعى ما قبل حديث. يعلى من قيم الجماعات الأولية على حساب قيم الدولة الحديثة. ومن ثم تصبح الدعوة إلى إعمال القانون من المستحيلات...
«فالتطرف الساكن بين النهر والجبل»؛ سببه: «الجهل والفقر والمتشددون» بحسب ما جاء فى التحقيق. بالنسبة لما يتعلق بالجهل والفقر وباقى المشاكل المجتمعية فسيجد المرء أن المشاكل لا تفرق بين أحد وآخر. وبدلا من النضال المشترك من أجل حلها اما بالتعاون مع الدولة أو بالضغط عليها فى إطار مشروعات تنموية شاملة. يبحث كل فرد عن حل لمشاكل الواقع إما بالحل الفردى أو بالعودة إلى الانتماءات الأولية. وعليه تصبح الشعارات والرموز الدينية «إعلانا عن الهوية». بهذا المعنى يصنف المجتمع على أساس ديني...وتفرض الأغلبية الدينية سلطتها والتى أطلقنا عليها الأسبوع الماضى «سلطة الغلبة» التى تحل تلقائيا مكان أجهزة الدولة الحديثة وتبدأ فى الهيمنة على الأقليات الموجودة سواء: جنسية أو دينية،...،إلخ.
وعليه تتشكل ــ ما أطلق عليه ـــ ثقافة مجتمعية مانعة. تتداخل فيها قيم الجماعات الأولية حيث لابد للقوى أن يفرض شروطه، مع فقه وافد علينا من بيئات لم تعرف التعددية. لذا يردد البعض فى التحقيق: «نحن دولة مسلمة، لا يصح ولا ينفع هذا لأن ديننا ضد أن تبنى كنيسة». كما يشير آخر أن هناك كنيسة قائمة بالفعل بما يعنى الاكتفاء بما قائم ولا حاجة لكنيسة جديدة دونما النظر لأى احتياج موضوعى لذلك. وهو المنطق الذى أطلقته مجلة الدعوة فى 1980، فيما عرف بفتوى بناء الكنائس فى ديار الإسلام.
وتجددت لاحقا على لسان أحد فقهاء السلفية المعاصرين. فإنه لا يسأل أحدا نفسه كيف بنيت هذه الكنيسة فى الماضى وكيف كانت تبنى الكنائس وقت :الطولونيون والإخشيديون والفاطميون والمماليك،.... وماذا كانت تعنى فتوى الإمام الليث بن سعد المحب للفقراء والعدالة(ابن القليوبية: الخضرة والنهر) الذى جعل من بناء الكنائس من (عمارة الدنيا وزينتها). وفتوى السنهورى فى هذا الشأن، وأنه ينبغى ألا يجور على الحق.
فى هذا المقام، أشير إلى أن المجتمعات التى عنى بتحديث حواضر أقاليمها ومحافظاتها فى (الزمان). ثم من خلال المصنع والوحدة المجمعة: الزراعية، والصحية، والبيطرية، والاستثمار فى التعليم، تجد فيها الدولة بمعناها الحديث حاضرة. حيث الكل يعمل معا من أجل التقدم المشترك. فتتراجع فكرة تصنيف المجتمعات إلى أغلبية وأقلية دينية حيث تعمل كل فئة لصالح جماعتها. فيسود منطق الدولة الحديثة التى تقوم على المواطنة كقاعدة انطلاق للشراكة بين المواطنين لبناء الوطن الذى يجمعهم.
وعلى مصر كمركب حضارى متعدد العناصر يتفاعل معا مبلورا الهوية المصرية الوطنية الثرية بتعددها لا الهوية المنفردة الإقصائية...والعكس صحيح،فإن غياب التحديث وحضور الدولة الحديثة بمؤسساتها يعنى عودة الأفراد إلى الجماعات الأولية: البدائية العلاقات، والتشكيلات، والقيم، والممارسات. ولا مانع من أن تتشح بالدين. وهنا يتفاوت التطبيق بحسب المصالح. فبالرغم من وجود نصوص دينية خاصة بالمواريث حيث تضمن ميراث النساء. فإننا نجدها معطلة خاصة فى مجال توريث الأرض الزراعية.
ذلك لأن الثقافة الأولية تحول دون ذلك. هكذا تحول الشرائح العليا من الجماعات الأولية فى الريف دون إعمال العدل فيما يتعلق بحق المرأة فى الميراث بالرغم من النص الديني. فإن الجماعات الأولية وبخاصة شرائحها الوسطى والدنيا التى تعانى من الواقع المجتمعى المؤلم نجدها تحول دون تحقيق الحقوق للمغايرين دينيا بسلطة الغلبة. فتسود الشائعة التى هى بحكم التعريف لا عقلانية وغير متحقق منها، والمجلس العرفي، وستجرى النساء...إلخ. وهى كلها تتناقض مع الدولة الحديثة وقيم الحداثة...ونتابع...