فشل النموذج التركى...

شغلني منذ أكثر من شهر، التحركات التركية في المنطقة لما مثلته من «تراجعات» جذرية في مواقفها المعلنة على مدى طويل، خاصة وأنها تزامنت مع بعضها البعض...



وأقصد بهذه التحركات/التراجعات المتزامنة؛ أولا: الاعتذار لروسيا عن إسقاط طائرتها، وثانيا: زيارة إسرائيل بعد فترة من رفعها راية المقاومة. وثالثا: التراجع عن الكثير من المواقف المتشددة تجاه أوروبا. وذكرتني هذه التراجعات، بالتاريخ العثماني عندما كان يعقب التراجع حصار أكثر للإمبراطورية، ما يعني إطلاق يد الحكام في الداخل بصورة مطلقة. أخذا في الاعتبار أن النموذج الإمبراطوري العثماني على غير ما هو شائع كان عمره صغيرا. نعم استمرت الإمبراطورية العثمانية لمدة خمسة قرون من 1517 إلى نهاية العقد الثاني من القرن العشرين.

إلا أن الفترة الذهبية للإمبراطورية انتهت مع ما أطلقت عليه في كتابي: «الحماية والعقاب: الغرب والمسألة الدينية في الشرق الأوسط»: ’’الإلحاق الاقتصادي والتجزئة الدينية»، والذي جرى مبكرا مع بدء ما يعرف «بالامتيازات الأجنبية» (وتعد نصوص الاتفاقيات المنظمة لهذه الامتيازات مجحفة للغاية)، والتي منحت بداية لإنجلترا في 1579(وتوالت الامتيازات كما يلي: هولندا في 1598، وروسيا في 1700، والسويد في 1737، ونابولي في 1740، والدنمارك في 1765، وإسبانيا في 1783، والولايات المتحدة الأمريكية في 1830،...، وأخيرا اليونان في 1854إلخ). ومع كل امتياز كان يتراجع الامتداد الخارجي، وتتفاقم أزمات الداخل. ومن ثم بدأت تتوالى الضغوط الخارجية من أجل الإصلاح. وكان الإصلاح يأتي دوما متأخرا.

وخلاصة هذه المشابهة هو أن «النموذج التركي»، بات يعاني أزمة ما. ناقشت هذه الفكرة مع أحد الصدقاء، خاصة انني كنت أعد مساهمة أوسع لتقديمها في ندوة ينظمها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية الخاص بالجيش اللبناني حول التحولات الكونية وأثرها على الشرق الأوسط. وكان رد صديقي أن الفكرة من حيث التصور النظري لها وجاهتها إلا أنها في حاجة إلى تعميق اكثر. لم تمض أيام حتى وقع في يدي كتاب صدر منذ شهرين عنوانه: «سقوط النموذج التركي: كيف أسقطت الانتفاضات العربية الليبرالية الإسلامية» وتأتي أهمية هذا الكتاب في أنه يشرح بدقة الصعود الأردوغاني وحزبه: العدالة والتنمية.

كذلك السياق الاقتصادي والاجتماعي الذي نشأ وتحرك فيه الحزب. وماهية القاعدة الاقتصادية التي اعتمد عليها الحزب في انطلاقته. وتبلورت نخبة الحزب من «سبيكة» تم صنعها من مكونات عدة من: المستوردين، والنخبة الدينية، والأغنياء الجدد، والمهنيين القادمين من الريف،...،إلخ. والذين تربوا وتشكل وعيهم في ظل ثقافة اقتصاد السوق فأصبحوا:محافظين إجمالا: ثقافيا، واجتماعيا.وليبراليين تحديدا في الاقتصاد.وكانت جماهير الحزب من العمالة التي تعمل لدى النخبة. كما تحالف مع بعض الحركات الدينية التي تعمل تحت مظلة المجتمع المدني مثل حركة جولن التعليمية الثقافية. وكان المجتمع المدني هو الحيز الحركي الذي انطلق فيه أردوغان من أسفل (وفي هذا يرجع المؤلف إلى جرامشي المُنظر الإيطالي في أن المجال السياسي يتشكل في لحظة ما من الفاعلين السياسيين والمنظمات الحركية).

وقد استثمر الغرب هذا التحرك وروج له باعتباره النموذج الذي يمكن تسويقه لدول المنطقة بداية لاستيعاب أي صعود ديمقراطي ناقد لليبرالية الجديدة النظرية المعتمدة للغرب من جانب آخر. كذلك لاحتواء الراديكالية الإسلامية من جانب آخر. وفي هذا المقام يرصد المؤلف خطاب بوش الابن لمؤتمر الناتو الذي عقد في اسطنبول سنة 2004 وبدأ فيه التسويق إلى «إسلام بديل». وهو ما ألتقطه أردوغان وقدم نفسه باعتباره «إسلاميا ليبراليا». والأكثر يوثق لنا المؤلف كيف تمت إشاعة أفكار حول مقاربات أكاديمية وسياسية لصبغ هذه الفكرة من جهة. وشرعنة فكرة أن المجتمع المدني البيئة الحاضنة الطبيعية لحركةالليبرالية الإسلامية الصاعدة لمواجهة الدول العلمانية في منطقة الشرق الأوسط وأنظمة الحكم الوطنية والحركات السياسية والفكرية الأخرى. وقبل كل ذلك حصار الديناميكية الديمقراطية الداخلية التي قد تحمل نقدا للغرب بالرغم من أن هذه القوة تنعت بالعلمانية. وهنا المفارقة والتباسات المصطلحات. فالليبرالية الإسلامية صارت هي المحُتضنة من قبل الغرب. والقوى المدنية هي التي باتت مصدرا ازعاج للغرب لاعتبارات كثيرة.

في هذا الإطار، استدعى أردوغان «حلم الإمبراطورية العثمانية» وتوحد بها. وبدأت «التنظيرات» التي تخدم على هذا الحلم. ولعل أشهرها المجلد الشهير المعنون: «العثمانية الجديدة»، الذي أصدره «أوغلو» وزير الخارجية الذي اختفى من المشهد السياسي فجأة منذ شهور قليلة. وبدأ يعمل أردوغان على الاعتراف به كـ «سلطان» للإمبراطورية المستدعاة من التاريخ. وأخذ بعض المواقف العنترية مثل: موقفه من إسرائيل وتركه لقاء دافوس في 2009 عندما كان بيريز حاضرا، ثم دعمه للجماعة على غير رغبة المملكة. وبدء حملة منظمة ومنهجية لكل من ينقده... ولكن الانتفاضات العربية جاءت لتزيح الستار عن الداخل التركي وتصل به إلى ما جرى الأسبوع الماضي...كيف؟.


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern