الصدمة المدوية لنخبة السوق

الصدمة المدوية؛ عبارة أطلقها رئيس وزراء فرنسا تعقيبا على نتيجة الاستفتاء البريطانى التى انحازت إلى خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبى أو ما عرف بالـ«Brexit». ولكنه لم يفسر ما هى طبيعة هذه الصدمة وأبعادها؟ ولمن؟...

وسارت أغلب التعليقات فى اتجاه دراسة التداعيات الاقتصادية والسياسية الداخلية التى ستواجه بريطانيا بعد البدء فى اتخاذ الإجراءات القانونية للخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي. وذلك بحسب المادة 50 من اتفاقية لشبونة(2008)..



بداية، ما جرى لا يبعد كثيرا عن مجمل ما كتبناه الأسابيع الماضية حول «الحركية» الشعبية المتنامية فى المجتمعات الأوروبية والتى تعكس رفضا لمجمل السياسات الاقتصادية ـ بالأساس ـ والتى تتحكم فى مصائر المنظومة الأوروبية. كذلك عما دأبنا الإشارة إليه حول الآثار السلبية لليبرالية الجديدة وما نتج عنها من أزمات مالية متعاقبة كانت ذروتها أزمة 2008 الأسوأ فى التاريخ الإنسانى وكل ما نتج عنها من تداعيات، لم تزال فاعلة إلى الآن ـ «فالخروج الكبير» لبريطانيا من الاتحاد الأوروبى يجسد فى مستوى من مستوياته، طبيعة الصراع بين مؤيدى «السوق» جوهر الليبرالية الجديدة ومقاوميها البازغين...كيف؟

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أيقنت بريطانيا أنها لم تعد هى الإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس. لذا بدأت لعب «دور القوة المستقلة المنفصلة عن أوروبا والتى ترتبط ارتباطا خاصا بالولايات المتحدة الأمريكية القوة البازغة آنذاك». واستمرت المناورات البريطانية فى الانخراط أو الابتعاد عن التحالفات والعمليات التكاملية الأوروبية المتنوعة خلال عقود الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات. ذلك عندما وجدت مارجريت ثاتشر(1979 ـ 1990)، فى سياسات الليبرالية الجديدة التى أصبحت عنوان النظام الاقتصادى العالمى آنذاك، والذى يقوم على اقتصاد السوق والخصخصة، فرصة لقيادة أوروبا فى هذا الاتجاه.

وتذكر «اللوموند دبلوماتيك»، كيف تبنت ثاتشر فكرة: «أوروبا السوق الكبير». وتبلور خط سياسى ثابت فى بريطانيا يتكون من عنصرين هما:

أولا: السوق أولا ومن ثم إزالة أى عوائق تحول دون حركة السوق حتى ولو لزم الأمر إجراء استثناءات تخل بالجانب الاجتماعى للمواطنين.

ثانيا: إعلاء مصالح الشركات على حساب الأوطان. ومع مرور الوقت زادت حدة التفاوتات المجتمعية. استفادت بريطانيا وألمانيا من هذا الأمر ومعهما فرنسا. ارتضيت بريطانيا بدورها الريادى لفكرة «السوق» وتشكلت آليات الاتحاد الأوروبى وفق التصور البريطانى (هناك تفاصيل كثيرة فى هذا المقام حول الحضور البريطانى فى المواقع المهمة بالاتحاد، والعلاقات الوثيقة بلجان ومفوضيات الاتحاد بالأوساط المالية البريطانية،...،إلخ) دون أن تغير بريطانيا عملتها وتدخل منطقة اليورو.

فى هذا السياق، انتصرت الليبرالية الجديدة على كل التيارات بما فيها اليمينية التاريخية التى كانت تعمل على التوازن بين العدالة الاجتماعية واقتصادات السوق. فتراجعت تيارات الديمقراطية الاشتراكية والديمقراطية المسيحية واليسارية فى العموم..

كما لم يلتفت أحد إلى القوى الشعبية البازغة الممتدة التى تكونت من الطبقة الوسطى والشباب ــ بالأساس ــ (كما حاولنا أن نشرح من قبل)، وجاء تكونها من خارج المؤسسات التقليدية السياسية والمدنية, لتقاوم بشكل أساسى ومحدد ومباشر سياسات الليبرالية الجديدة.الأهم لم ينتبه أحد إلى التفاعلات الداخلية البازغة داخل الأحزاب التقليدية ولعل ما يجرى فى الحزبين الكبيرين التاريخيين فى بريطانيا: العمال، والمحافظين، لخير دليل على أن هناك جديدا يطرأ فى المجتمع والدولة فى بريطانيا، (وفى أوروبا) جدير بالاهتمام. وعدم اقتصار التحليل على الخسائر المالية فقط على أهميتها.

من هنا كان اهتمامنا منذ شهور بالحديث عما طرأ على الجسم الطبقى البريطانى تحديدا. وإشارتنا المبكرة حول صعود إشكالية طبقية تتمثل فى تبلور طبقة «البريكاريات» (نسبتها 30%):الطبقة المنهكة، أو الطبقة خارج الحسابات السياسية والاجتماعية، أو الطبقة الذليلة،...،إلخ.

ولعل القراءة المتأنية لجغرافيا وبيولوجيا وسوسويولوجيا الاستفتاء (بعيدا عن القراءة السريعة أو المتواترة عن جهات بعينها) تؤكد محنة الريف البريطانى مقارنة بلندن، والطبقات الوسطى فما دون ووصولا لطبقة البريكاريات، وشرائح من الشباب معتبرة تنتمى للطبقات الاجتماعية الوسطى والفقيرة. وهى المحنة التى يمكن إيجازها فى أن ثمار «السوق» لا تمتد إليهم، حيث يحتجز أغلبه فى منطقة ما تسيطر عليها البنوك والأسواق المالية لحساب قلة صغيرة...

لذا فإن الصدمة المدوية التى حدثت هى فى واقع الحال قد أصابت نخبة السوق...خاصة أن ما جرى قد يحدث فى مواقع أخرى...ونتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern