الحركات الشعبية وتجديد مفهوم الصالح العام

ما يحدث في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 2008؛ سنة:»الأزمة الاقتصادية الأكبر في تاريخ الإنسانية»، بفعل «السياسات الاقتصادية النيوليبرالية»، لا يمكن أن يوصف إلا بأنه عملية ’’تحول كبرى تاريخية‘‘...فكل شيء بات قابلا للمراجعة...



في هذا السياق، طرحنا مبكرا المراجعات المعتبرة التي تمت ولم تزل تتم «للرأسمالية» من خلال كتابات عدة لعل أبرزها ما كتبه ديفيد هارفي حول نهاية الرأسمالية. كذلك تحولات الداخل الأمريكي وانتشار الكتابات الفكرية تحت عنوان «ما بعد الرأسمالية». ثم حاولنا أن نلقي الضوء على ما أطلقنا عليه ’’الحركات الشعبية القاعدية المتمددة‘‘، من حيث طريقة وأسباب ودوافع تكونها...وهي الحركات التي انطلقت خارج التنظيمات التقليدية والمؤسسات السياسية التاريخية مقاومة بالأساس الآثار السلبية لسياسات الليبرالية الجديدة. وأشرنا لحركات»سيريزااليونانية»(راجع مقالنا: يسار التحرر من ربطة العنق)، والواقفون ليلا الفرنسية» (راجع مقالنا ماذا يحدث في فرنسا)، والخمس نجوم الإيطالية»،وبوديموس الإسبانية»، «ولكتل الشباب السياسية المتحررة من سطوة الحزبين الكبيرين التاريخيين في أمريكا ولديه اختيار سياسي مغاير للخيار السياسي الرأسمالي النمطي الذي عرفته أمريكا عبر تاريخها. وقد تبين بعد الانتصارات الانتخابية لكل من: «حركة بوديموس الإسبانية»، و»حركة الخمس نجوم الإيطالية»، أن هذه الحركات يجب أن تؤخذ بجدية. ما يستدعي فهم طبيعتها ومطالبها...

بداية نشير إلى دراسة نشرت في 2014 حول «موجات الحركات السياسية في أوروبا»، منذ ثورة الطلبة في 1968، تقول:’’ أن هذه الموجات تكاد تكون منتظمة وأنها تجدد الحياة السياسية. إلى أن هذه الموجة الراهنة تحمل اختلافات جوهرية في: طبيعتها الطبقية، والعمرية، وفي رؤيتها للديمقراطية، وفي مطالبها، وطريقة تنظيمها،...،إلخ.

فمن حيث طبيعتها؛ يلاحظ الآتي: أولا: الكتلة الرئيسية التي تميز هذه الحركات أنها تنتمي إلى الطبقة الوسطى بشرائحها في العموم. وثانيا: إنها كتلة، قوامها من الناحية العمرية، يعد شابا، بالمعنى الواسع لتعريف الشباب، أي من 15 إلى 40. فها نحن نشاهد طلبة المدارس الثانويةفي فرنسا وقد انضموا إلى «المعتصمين في الميادين ضد قانون العمل الفرنسي». وهم الذين باتوا يعرفون بحركة «الواقفون ليلا».

أما من حيث مطالبها؛ أو برنامجها. فإن ما يجمع بين عناصر هذه الكتلة هو: ’’إعادة الاعتبار إلى مفهوم الصالح العام‘‘...فالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية نُفذت من قبل «قلة» لصالح «قلة». وهذه القلة: السياسية / الاقتصادية تنتظم معا في إطار شبكات مغلقة لضمان الحصول على غالبية المغانم ولا مانع من أن «تتساقط بعض القطرات من سيل المغانم لغالبية البشر خارج هذه الشبكة». ووُظفت في هذه العملية المؤسسات الحكومية والحزبية مثلما هو الحال في إيطاليا وإسبانيا. لذا ولدت هذه الحركات مناهضة بالتمام لهذه المؤسسات وعرفت بأنها الحركات ال “Anti-Establishment”...من هنا كانت فكرة «الصالح العام» فكرة محورية لدى هذه الحركات. أو صالح «المواطن العادي» أولا. لذا نجد شعار «الناس أولا»، ومن ثم مصلحتها العامة، أحد أهم الشعارات المتداولة بين هذه الحركات.

لذا يمكن القول إن «ازدراء»؛إذا جاز التعبير،تداعيات السياسات النيوليبرالية»، وضمنا «صالح القلة الثروية» هو الدافع الأساس لتكون هذه الحركات.ويتأكد ذلك إذا ما راجعنا بعض مطالب هذه الحركات كما يلي: أولا: الإدانة التامة لخطط التقشف الاقتصادية. ثانيا: لا بديل من تأمين البنى التحتية الاجتماعية والاستثمار في الاقتصاد الأخضر والتكنولوجيا الآمنة. ثالثا: الرفض المطلق المساس بحقوق الأجراء في العموم وحقوق العمال بوجه خاص. رابعا: الهجوم على طبقة «المليارديرات» وخاصة المتورطين في قضايا الفساد. خامسا: تأمين أنظمة تعليم وصحة وخدمات عامة وكشف كل من يعمل على انهيارها. سادسا: الملكية العامة للموارد العامة مثل الملكية العامة للماء كما تنادي بها حركة النجوم الخمس (وبالمناسبة النجوم الخمس تعكس خمسة مطالب للحركة. والنجمة الأولى تتعلق بقضية الماء). سابعا: التأكيد على الديمقراطية التشاركية من خلال التواصل مع المواطنين العاديين في عملية صناعة القرار. فالديمقراطية التمثيلية باتت لا تعكس الهدف منها بفعل المال السياسي أو الإعلام الموجه. ثامنا: التمسك بدولة الرفاهة القائمة على العدل. أو ما بات يعرف بدولة الرفاهة التنموية والتي تجاوزت الدولة التنموية...

والقارئ بعناية «للحركية المجتمعية» الجديدة في أوروبا، يمكنه أن يلحظ بسهولة ويسر أن هذه الحركات في واقع الأمر تعكس معركة حقيقية بين: المواطنين(العاديين):’’القاعدة الشعبية‘‘؛ الذين أضيروا ـــ بدرجة أو أخرى ــــ من الليبرالية الجديدة. وبين دعاة الليبرالية الجديدة بكل تنويعاتها وتحالفاتها: الاقتصادية، والدينية والسياسية، والتفاقم الذي جرى بين القلة الثروية وغالبية المواطنين. وهو موضوع أصبح مثار جدل سياسي وأكاديمي لافت للنظر...يتبقى الحديث عن عدة إشكاليات تتعلق: بالرؤية الفكرية الحاكمة لهذه الحركات، والتصنيف السياسي لها، وقدراتها المؤسسية، ودور تقنيات المعرفة والتواصل الاجتماعي في «تمدد» هذه الحركات، وأخيرا مستقبلها...ونتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern