على مدى شهر، حاولنا إلقاء الضوء على ظاهرة آخذة فى التمدد فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية...ظاهرة تعكس تحولات نوعية فى البنية المجتمعية لهذه المجتمعات ـ أظنها ـ تاريخية. ولا تقل بأى حال من الأحوال عن التحولات التى أطلقتها كل من حركة الشباب فى أوروبا وحركة الحقوق المدنية الأمريكية فى ستينيات القرن الماضي...إنها الظاهرة، التى أميل، أن أطلق عليها’’الحركات الشعبية القاعدية المتمددة ذات الطبيعة الاحتجاجية والرافضة‘‘...وقد حاولنا أن نرصد لها فى كل من فرنسا وإيطاليا وأمريكا، بالإضافة إلى الإشارة لكل من إسبانيا، واليونان،...فما طبيعتها؟ وما الأسباب التى أدت إلى تبلورها؟وما الآثار التى ستترتب عليها؟
بداية، نشير إلى أن حركة "النجوم الخمس" الإيطالية، والتى أشرنا إليها فى مقال الأسبوع الماضي، قد نجحت فى إلحاق هزيمة ثقيلة للحزب الحاكم فى الانتخابات البلدية التى أجريت مطلع هذا الأسبوع. حيث حققت الحركة الصاعدة انتصارات حاسمة فى مدن: روما، وميلانو، ونابولي، وتورينو. وقد كللت نجاحاتها بفوز عضو الحركة القيادية:"فرجينياراجي"(37عاما) بـ 67% من أصوات المرشحين فى جولة الإعادة، ودخولها التاريخ كأول امرأة فى تاريخ إيطاليا تترأس بلدية العاصمة الإيطالية:روما.وهو نفس النجاح الذى حققته حركة "بوديموس" الإسبانية قبل عام بنجاح قاضية كعمدة لمدريد،...،إلخ. إنها لحظة تاريخية بكل المعايير،...لماذا؟
أولا: لأن هذه الحركات تشكلت من خارج الأحزاب التقليدية التاريخية. ومن خارج شبكات المصالح التى تدير السياسة: تشريعا وممارسة. ومن خارج النخبة/الطغمة السياسية الحاكمة فى العموم. فهى تتشكل قاعديا، وتجتمع عناصرها حول قضايا حياتية مباشرة. فتعبير "النجوم الخمس" يعكس خمسة مطالب أساسية للحركة مثل: الملكية العامة للماء، ومقاومة الفساد، والحفاظ على البيئة،...ثانيا: لأن هذه الحركات تعبر عن نفسها باعتبارها رافضة لليمين النيوليبرالى وسياساته الكارثية التى أدت إلى إحداث تفاوتات مجتمعية فى شتى المجالات. وصار مبحث "اللامساواة" أحد أهم المباحث الأكاديمية والسياسية التى تشغل الفكر الغربى بشكل غير مسبوق. كما تقدم هذه الحركات نفسها باعتبارها حركات ناقدة لليسار المهادن الذى ابتكر أطروحة الطريق الثالث لتخفيف الآثار السلبية المدمرة لاقتصاد السوق والرأسمالية المالية. ونشير هنا إلى كيف استطاعت حركة النجوم الخمس" فى أن تنتصر فى تورينو التى تعرف تاريخيا بأنها معقل للعمال ولكتلة يسار الوسط. (لوجود شركة فيات لصناعة السيارات بها). حيث انتصرت السيدة كيارا أبيندينو (31 عاما)، على أحد القيادات التاريخية اليسارية بييروفاسينو ومن ثم أصبحت رئيسة لبلدية تورينو. وتعد هذه الانتصارات وغيرها بداية معركة سياسية مع الحزب الحاكم ستصل ذروتها فى الانتخابات العامة فى 2018...ثالثا: تقدم هذه الحركات نفسها باعتبارها مضادة ومقاومة ورافضة لكل المؤسسات التقليدية التى تتسم: "بالمحافظة، وبالفساد، والترهل، وبالشيخوخة الفكرية والمؤسسية،...،إلخ.لذا توصف هذه الحركات بأنها“Anti – Establishment”. إلا أن الفرق بين هذه الحركات ومثيلاتها فى الستينيات هو أن الأخيرة كانت رافضة بالمطلق التعاطى مع ما هو قائم. إلا أن الحركات الراهنة رافضة لما هو قائم. ولكن لا يمنع من قبول اللعب بنفس قواعد اللعبة السياسية المرفوضة. ويكمن الاختلاف فى أن هذه الحركات تعتمد على التعبئة من خلال التقنيات الحديثة التى تتيح التواصل من المواطنين العاديين مباشرة دون وسطاء أو وكلاء أو مال سياسي. ما يتيح الوصول إلى شرائح متنوعة من هؤلاء المواطنين العاديين مثل: الشباب، والمرأة، والمهمشين بأنواعهم. وهى كتلة طبقية ممتدة، تزداد عناصرها كلما اتجهنا إلى أسفل الجسم الاجتماعي. ويبقى السؤال ما الدافع إلى ظهور هذه الحركات؟
تجيب سوزان واتكينز فى الدراسة الافتتاحية لمجلة اليسار الجديد(عدد 98،مارس/ابريل 2016)، بأن هناك ثلاثة دوافع أساسية تحكم بزوغ هذه الحركات وذلك كما يلي: أولا: الرفض التاريخى للإدارة السياسية للبلاد والإصرار على الأخذ بالسياسات النيوليبرالية والتى أدت إلى "حالة ركود تاريخى غير مسبوقة: اقتصادية، وجيلية، وطبقية،..،إلخ. بالإضافة إلى الفضائح الاقتصادية المتكررة. ثانيا: التصدع التاريخى لتحالف يسار الوسط “Collapse of the center – left parties”، الذى كان أداة للاقتصاد النيوليبرالى من حيث القيام بأدوار: تسكينية، وتعويضية، لتمرير سياسات كارثية أى التخديم على القلة الثروية. وتؤرخ الباحثة بانها نهاية "للسنوات الفقاعية"، وعلى أوروبا أن تعيد النظر فى الكثير من الاختيارات المصيرية. ثالثا: تداعيات التدخلات الغربية فى أماكن الصراع المختلفة فى الشرق الأوسط والتى ارتدت على القارة الأوروبية بأعباء قد تؤدى بانهيار اقتصادى يؤذى أول ما يؤذى الطبقات الاجتماعية الدنيا مقابل ثراء أكثر للطغمة الاقتصادية. وهو الأمر الذى لم يعد المواطن العادى الأوروبى قادرا على تحمله.