كل المؤشرات تقول إننا نعيش مرحلة ’’تحول كبرى‘‘؛ إذا ما استعرنا عنوان الكتاب الهام لكارل بولانيى (1886 ــ 1964،أحد أهم المؤرخين الاقتصاديين فى القرن العشرين)... ولكن ما الذى يدفعنا إلى قول ذلك؟
بداية، نقول إن هناك اتفاقا على أن عملية التحول الكبير تنشأ، تاريخيا، عندما يتم رصد لحظة ميلاد الصراع بين ’’القوى‘‘ (بتعبير بولانيي) المجتمعية. فلقد سجل كارل بولانيي، فى كتابه، الذى نشر قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، طبيعة التغيرات التى طرأت على الإنسانية من جراء الرأسمالية الصناعية ـ آنذاك ـ وطارحا توقعاته المستقبلية على الانسانية...ومن ثم تداعيات هذه المتغيرات علىلعبة توازنات المصالح أو "القوى"، فى دعم التحولات. وحتمية إحداث التغيير بما يعبر عن أحلام المؤمنين بالجديد والمتمردين على كل ما هو قديم. وفى أقل من عقد من الزمان، انطلقت حركات الرفض والتغيير فى أوروبا، وحركة الحقوق المدنية فى الولايات المتحدة الأمريكية معلنة الرفض التام لقواعد اللعبة القديمة: الاقتصادية/السياسية، التى تم وضعها فى فترة ما بين الحربين العالميتين.
مما سبق، لابد لنا أن نأخذ ما يجرى فى أوروبا وأمريكا اللاتينية وبعض دول آسيا، بل وفى الولايات المتحدة الأمريكية مأخذ الجدية. وهو ما حاولنا أن نرصده فى مقالاتنا الأخيرة حول الشبيبة الأمريكية وتغير نظرتها للرأسمالية، والصراع فى البرازيل، وأخيرا ما يجرى فى فرنسا. ومن قبل ما جرى فى اليونان.والتى أظنها، فى المجمل، تمثل عملية ’’تحول كونية كبرى‘‘؛ ربما تكون ’’ناعمة‘‘؛ لتجاوز القديم الذى تبين ’’انتهاء صلاحيته‘‘ مع الأزمة المالية الأكبر فى التاريخ الانساني؛ والتى باتت تعرف وتوصف ويلحق بها فى الأدبيات الراهنة "بالنيوليبرالية"...
فى هذا السياق، تأتى حركة ’’5 نجوم‘‘ الإيطالية. كحركةسياسية، من خارج الصيغة السياسية التقليدية التاريخية المعروفة فى إيطاليا وتتقدم عليهم فى الانتخابات البلدية وتحصد ما يقرب من 40% من أصوات الناخبين، فى الأسبوعين الماضيين...إنها الحركة التى يجب أن تؤخذ بجدية"، بحسب ما جاء فى الفاينانشيال تايمز منذ أكثر من شهرين...وأضيف الاهتمام بالحركات المشابهة مثل: سيريزا اليونانية، والبوديموس الإسبانية، والواقفون ليلا وجبهة اليسار الفرنسيتين، وكتلة شباب الاشتراكية الديمقراطية الأمريكية،...،إلخ.
فلقد انطلقت حركة "5نجوم" عام 2009 احتجاجا على الأزمة الاقتصادية وعلى الممارسات السياسية الفاسدة المتكررة منذ عقود من قوى اليمين واليسار على السواء، وعلى الآلية الديمقراطية التمثيلية "الصنمية"التى باتت تقدس صندوق الانتخابات كآلية تأتى بممثلى الشعب من خلال وسائل ليست نظيفة. ساهمت فى إقصاء/ابتعاد الكثيرين من/عن العملية الانتخابية. فبات من يحصد الأغلبية يأتى من خلال الأقلية.
بدأت من خلال المدونات النقدية عبر "السوشيال ميديا". وكان أول من أطلقها: الكوميديان الإيطالى بيببيجريللو، مع رموز شبابية معتبرة. حيث ركزت الحركة على قضايا بسيطة ولكنها تمس المواطن العادى فى حياته اليومية مثل: الفساد، وإعادة تدوير النفايات، وحماية البيئة، ومقاومة المشروعات التى تتداخل فيها مصالح السياسيين مع عموم المواطنين، وإعادة الاعتبار للإدارة العامة المدنية التى تتيح صناعة قرار بعد أوسع تشاور بين المواطنين،...،إلخ...انطلاقا من هذه الخلفية حصدت الحركة فى أول انتخابات خاضتها فى 2013 ما يقرب من 30%. وأصبحت الحركة رقما، ليس فى المعادلة السياسية الإيطالية فقط، بل والأوروبية.
وتعتمد الحركة فى امتدادها على أمرين هما: الأول: التواصل مع المواطنين من خلال التقنيات الحديثة أو ما يعرف فى الأدبيات الراهنة: "الشبكة الشعبية" “web – populism”؛ أو توظيف الانترنت لأغراض تنظيمية هدفها النهائى هو الوصول بالديمقراطية للقواعد الشعبية من المواطنين أو ما تؤمن به:"المواطن العادي"“Ordinary Man”.الثاني: طرح تصورات وأفكار غير نمطية فى معالجة الكثير من القضايا التى باتت مزمنة فى الواقع الإيطالى بسبب أصحاب المصالح الذين يسيطرون على الملعب السياسى منذ عقود، ومن مصلحتهم بقاء الأوضاع على ما هى عليه.
وفى هذا المقام، نشير إلى إصرار الحركة على أن تُبقى على حركيتها حتى لو سلكت سلوك الحزب السياسي. ما يتسق مع أحد قناعاتها الأساسية الرافضة للمؤسسات القديمة التى أدت بإيطاليا لواقع اقتصادى حرج أو ما يعرف “Anti – establishment”...وفى رسالة ماجستير نوقشت مؤخرا حول الحركة (عنوانها الحركة الشعبوية فى إيطاليا: حركة الـ5 نجوم نموذجا)، يقول مقدم الأطروحة: ان الحركة أتفق على تصنيفها بحسب أحد الباحثين فى الحركات السياسية (هربرتكليتشت): بأنها أقرب إلى ’’الحركة الحزب“Movement-Party”. لا يعتمد الهيكل التنظيمى التقليدى المعروف للأحزاب بقدر ما يؤمن العلاقات التنظيمية عبر تقنيات التواصل الحديثة. والأهم هو أن قناعة الحركة بأن هذا هو السبيل إلى تحقيق الديمقراطية الحقيقية فى بعدها التداولى والتشاورى الحقيقيين ما يضمن إحداث تحولات حقيقية فى بنية: الدولة/المجتمع...
إلى أى مدى سوف تصمد هذه الحركات...يطرح هذا السؤال نفسه فى كثير من الدوائر. إلا ان الأكيد والذى لا خلاف عليه هو أن العالم يشهد تحولا كبيرا: ناعما و مقاوما...ونتابع...