أحمد عبد الله رزة.. الغائب الحاضر

فى الخامس من يونيو من سنة 2006، غاب عن عالمنا المفكر والمناضل الكبير أحمد عبد الله رزة (1950 ــ 2006). غاب بالجسد، ولكنه يظل حاضرا حضورا طاغيا، بدوره الوطنى التاريخى المركب.



كان أحمد عبد الله رزة: مناضلا بارزا، ومفكرا سياسيا رفيع المستوى، وممارسا تنمويا رائدا...عرفته فى منتصف الثمانينات وكان عائدا لتوه من البعثة من انجلترا، التى أنهى فيها رسالته للدكتوراه عن علاقة الطلبة والسياسة فى مصر منذ عشرينيات القرن العشرين إلى سبعينياته. وهى المرحلة الحرجة التى عاشها هو وجيله الذى عرف "بجيل السبعينيات: الرافض للهزيمة والمحرض على الحرب واسترداد الأرض". فى هذا السياق أهلته قدراته أن يكون رئيسا للجنة الوطنية العليا لطلاب جامعة القاهرة عام 1972 وذلك بالانتخاب. ومن ثم أصبح المتهم الأول فى قضية الطلبة بعد الحشد الهائل الذى تجمع من أجل حث القيادة السياسية ــ آنذاك ـــ على الحرب.

عاد من لندن متطلعا إلى وطن جديد: ديمقراطي، وعادل، وعصري. ولكن الأبنية القديمة لم تستطع أن تحتضنه. فقرر أن يتحرك فى كل اتجاه مبشرا بعالم جديد وبمستقبل أفضل. حيث تولدت لديه قناعة مفادها أن: ’’المبارزون بسيوف قديمة‘‘، إنما ’’يطعنون الأجيال الجديدة‘‘، ويصادرون على المستقبل...

وعليه لابد من التجرد من المصالح الخاصة، والتحرر من أية ارتباطات تعوق دون السعى نحو المستقبل...فعاش حياته زاهدا وحرا...ومبشرا بالديمقراطية والتوافق بين كل ألوان الطيف السياسى وبخاصة شبابها وأجيالها الطالعة...فصناعة المستقبل لديه لابد وأن تستوفى حدا أدنى من الوحدة بين عناصر الأمة وحدة وطنية فى مواجهة التهديدات الخارجية، ووحدة سياسية بمعنى الاتفاق على أساليب الصراع السياسى والالتزام بها، ووحدة اجتماعية بمعنى الاتفاق على حد أدنى لمستوى المعيشة لأحقر الطبقات، ووحدة ثقافية بين المواطنين بالرغم من تمايزهم.

وبغير ذلك لا يجدر الحديث عن الأمة والوطن‘‘.. والأهم هو أن تحمل هذه الموحدات أجيالا جديدة متحررة من الأجيال القديمة الأخوة فى فقدان الصلاحية. أجيال قديمة نصبت نفسها كهنة للثقافة والسياسة وبغير صكوكها "الاعتمادية" لا يمكن لأحد من الجيل الجديد أن يجد له موضعا فى المشهد. ومن هنا أسس مركز "الجيل"، كأول مركز يعنى بفكرة "الجيل" كفاعل فى الحياة السياسية والمدنية. وانخرط فى عقد لقاءات قوامها جيل السبعينيات والأجيال الشبابية التالية.

لم يكتف أحمد عبد الله بإنتاج الأفكار. وإنما حمل هذه الأفكار فى محاضراته وحركته الدءوب فى كل موضع على أرض مصر التى كان دائم التحرك فيها: محاضرا، ومدربا، وممارسا للأعمال التنموية المتنوعة. وكانت تجربته التنموية فى التعامل المبكر لظاهرة عمالة الأطفال نموذجا للوعى الوطنى والمدنى فى التنبيه المبكر لظاهرة باتت مؤرقة فى الواقع المصري...

وأشهد من خلال علاقتى به التى توثقت نهاية الثمانينيات عندما شاركنا معا فى أكثر من تجربة حوارية شبابية رائدة (ومعنا أحمد بهاء الدين شعبان، وأحمد الجمال، ونبيل عبد الفتاح،ونبيل مرقس، ومنير عياد، وهبة رءوف، والراحل جورج عجايبي، وآخرون... مع العم جورج إسحق مد الله فى عمره)...كيف كان يتمتع ببصيرة وشخصية رؤيوية تتسم: أولا:"بالحكمة" و"الثورة" فى آن واحد. ثوريته لم تكن ثورية فوضوية. كما لم تكن حكمته تأملية منبتة الصلة بالواقع. وإنما كانت حكمته هى حكمة العالم العائش فى الواقع بين الناس حتى النخاع. والمدرك لتاريخ مصر وتطلعاتها. ومن أجلها على كل وطنى أن يعمل من أجل تغيير الواقع والأبنية المتآكلة الهشة...إنه تغيير فى ضوء الحكمة لا تغيير مغامر بلا رؤية...

وثانيا: "بالرصانة" و"الحدة"، رصانة التحليل والخطاب الذى يتضمن مفردات مختارة بعناية تصلح لكل الفئات...وحدة الخوف على الآخرين (أو ناسنا بتعبيره) وعلى البلد.

وثالثا:عرف كيف يكون مركبا وبسيطا. فتراه يخاطب أطفال عين الصيرة بلغة يفهمونها دافعة على تغييرهم. وفى نفس الوقت، تراه يتواصل مع النخبة من سياسيين ودبلوماسيين ومثقفين وباحثين حول الواقع المصرى أو العلاقات الدولية أو التطور الديمقراطي...

لقد كان أحمد عبد الله رزة بحق وبحسب صديق العمر نبيل عبد الفتاح ـ أمد الله فى عمره ـ "أيقونة الوطنية المصرية". حيث’’الوطنية لديه لم تكن تعنى أطروحات أيديولوجية متحيزة وإنما تعنى الانخراط بالإسهام المتنوع العملى الذى يثرى الوطنية فتنمو وتزدهر‘‘...

يقينا، افتقدنا أحمد عبد الله رزة. وظنى أن مكانه لم يزل خاليا. وأظن أن كثيرين يوافقوننى على أننا كنا فى أمس الحاجة إلى وجوده فى سنوات الحراك التى انطلقت فى 25 يناير والتى طالما حلم وبشر بها وعمل من أجلها. وأنه سيكون من الحكمة والثورة والرصانة والحدة والتركيب والتبسيط فى أن يقول لنا أين أصبنا وأين أخطانا: كقوى سياسية، وكمؤسسات، وكأجيال،...أظن ان من حق أحمد عبد الله رزة علينا أن ننصفه بحسب الراحل الكبير أنور عبد الملك. وليس أقل من أن تتوافر سيرته ومؤلفاته للأجيال الجديدة، كعلم وطنى كبير...ونتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern