إن النظام الاقتصادى للولايات المتحدة الأمريكية والمعروف"باقتصاد السوق الحر"، تحكمه قواعد متشابكة غاية فى التعقيد، على مدى أربعة عقود. إلا أن هذا النظام ـ الآن ـ بات يعرض مستقبل كل أمريكى للخطر‘‘...
بهذه العبارة تقدم مجلة التايم الأمريكية (عدد هذا الأسبوع، 23 مايو 2016)، الملف المعنون: "انقاذ الرأسمالية Saving Capitalism". وتدلل المجلة على التقديم بعرض لبعض المظاهر التى تم رصدها مؤخرا فى أوساط الشباب الأمريكي. ثم تعرض لمضمون ما جاء فى كتاب صدر مطلع هذا الشهر حول مأزق الرأسمالية العالمية فى بلد المركز الرأسمالى الأول: أمريكا، يفسر موقف الشبيبة الأمريكية من الرأسمالية فى طبعتها "المنحرفة". وهو كتاب: "المحركون والرابحون(المستحوذون): صعود المال وسقوط الأعمال The Rise of Finance & Fall of American Business Makers & Takers لمؤلفته: رانا فوروهار.
أولا: يشير الملف إلى دراسة ميدانية نظمها معهد هارفارد للسياسات، أجريت قبل أسبوعين، لعينة من الشباب تتراوح أعمارها ما بين:18 إلى 29 سنة،كانت نتائجها "مروعة" (بحسب تقرير التايم). حيث رصدوا ما يلي:’’ 19%، فقط، من عينة البحث عرفوا أنفسهم باعتبارهم "رأسماليين" بشكل عام. وأن 42%، فقط، مما سبق(أى الـ19%)، قالوا صراحة أنهم يدعمون الرأسمالية. و26 %، فقط من هذه العينة، هم الذين اعتبروا أنفسهم بوضوح من شريحة الرأسماليين، وأكثرية هذه النسبة تميل للأكبر سنا فى العينة...وأخيرا، صُنفت باقى العينة(أكثر من النصف قليلا) على أنهم يدعمون النظام الاقتصادى فى العموم‘‘. وكان مصدر الترويع هو النتيجة التى كشفت عنها الدراسة ألا وهى كيف أن غالبية الشباب الأمريكى أصبح ايمانهم بالرأسمالية موضع شك فى "الدولة الأكثر غنى وتبنيا لتوجه اقتصاد السوق فى العالم". وكيف أن كتلة بشرية من الشباب يمثلون مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية يعبرون عن "حالة مواطنية" غير مرتاحة لما يعتبر "الأساس الاقتصادى للبلد". الأهم هو كيف أن المواطن فى حياته اليومية ومن خلال التعاطى العملى مع الواقع الاقتصادى قد أصبح لديه دوافع متنوعة وراسخة لمساءلة نظامهم: "إنها أزمة بكل المعايير"، بحسب مجلة التايم.
ولعل ما يقدمه المرشحون للرئاسة الأمريكية من تصورات حول الأزمة الاقتصادية الداخلية، يوضح مدى حدة الأزمة حول اهتزاز اقتناع الأمريكيين بالرأسمالية التى تعانى من أزمة ممتدة محتقنة منذ إطلاق سياسات الليبرالية الجديدة أو اعتماد اقتصاد السوق.
فلا رؤية ساندرز حول تفكيك البنوك الكبيرة، أو رؤية هيلارى كلينتون بتقوية التنظيم المالى القائم، أو رؤية ترامب بأن يدفع الممولون المحصنون ضرائب أكبر، أو رؤية الحزب الجمهورى بتقليص التدخلات التنظيمية الحكومية،...،إلخ، تمس كبد الحقيقة. فأزمة الاقتصاد الأمريكى أعمق من العلاجات والإجراءات الجزئية. لأنها سوف تتعاطى مع الظواهر لا مع جوهر الأزمة التى وصفها التقرير"بالشنيعة" التى تهدد على السواء:"الأكثر يسرا والأكثر فقرا، الحزبان الكبيران، جيل الكبار وجيل الشباب". ولعل ردة فعل الشباب وفق الدراسات المتعاقبة ـ مؤخرا ـ أصبحت الأكثر وضوحا فى التعبير عن مدى هذه الأزمة.والتى يمكن أن نوجزها فى إنها: "أزمة انكسار النظام الأمريكى للرأسمالية السوقية “Market Capitalism”.
وثانيا، نأتى للكتاب، الصادر منذ أيام، والذى أثار جدلا واسعا فى وقت قليل،:كتاب: "المحركون والمستحوذون"، حيث تشير المؤلفة إلى أن:"الرابطة التاريخية بين التى نشأت فى أمريكا منذ 1790 بين الأعمال والانتاج والنظام المالى من خلال نظام بنكى غاية فى الانضباط، قد أصابه الفصام.
فالدور التاريخى التمويلى البنكي(الفردي/والمؤسسى عبر الشركات) المتمركز فى دعم المشروعات الانتاجية. ومن ثم خلق وظائف جديدة، وحالة من الرخاء الملموس، ويقينا نمو اقتصادي. قد طاله خلل بفعل دخول أموال مجهولة المصدر باتت تمثل مصدرا تمويليا رئيسيا لا يصب فى اتجاه انتاجي. بل فيما هو استثمار مالى من شراء عقارات، وأسهم وسندات،... وقد سمح ذلك بأن يزداد الأغنياء غنى. وأن يزيد الاحتكار بدرجة مفزعة. ويدلل الكتاب على ما سبق من خلال تضاعف نسبة القطاع المالى من مجمل الاقتصاد الأمريكي. الأكثر من ذلك هو اقتطاع نسبة تزيد على 25% من عائد أرباح الشركات ليتم تدويرها فى القطاع المالى لا الانتاجي.وهو ما يقلل خلق فرص عمل ومن ثم بطالة وخاصة فى أوساط الشباب.
وبالأخير، أصبح نظامنا الاقتصادي، بحسب المؤلفة، "لعبة صفرية بين مستحوذى الثروة المالية وباقى المواطنين الأمريكيين". حيث يمثل الشباب الغالبية.
وتؤكد أن ما يجرى فى أمريكا سوف يمتد إلى كل البلدان التى تطبق اقتصاد السوق...ما سيزيد الغربة بين القطاعات الشبابية ـ تحديدا ـ والنظام الاقتصادى الذى يتم التبشير به منذ أربعة عقود ولم يحقق إلا التفاوتات والاختلالات واللامساواة...ما يؤذن بتداعيات كثيرة...ونتابع...