إدارة الأزمات فى زمن التحولات

لماذا باتت الأزمات التى تتوالى تأخذنا جميعا إلى طريق مسدود؟، ولماذا أصبحنا لا نستطيع أن نتعاطى مع الأزمات بطرق تجعلنا نطوقها ونحولها إلى خبرة متراكمة تحول دون تكرارها؟، ولماذا نستسهل الصدام عن ابتكار آليات احتواء للأزمات؟...



بداية، لابد لنا أن ندرك ثلاث حقائق أساسية وذلك كما يلي: أولا: أننا نعيش إحدى دورات الانتقال “Cycle of Transition”، فى إطار عملية ’’تحول حرجة‘‘؛ بحسب رالف جولدمان. أى أننا لسنا فى مرحلة طبيعية هادئة ومستقرة. وليس معنى أننا قد استطعنا أن نؤدى ما علينا من استحقاقات بحسب ما أُصطلح على تسميته بخارطة الطريق، يعنى أننا قد بلغنا النهاية السعيدة. نحن فى قلب عملية غاية فى التعقيد أطلقها كل من حراك 25 يناير، و30 يونيو، شئنا أو لم نشأ. قبلنا بهما أو أنكرناهما. فما جرى فى مصر كبير وتاريخى بكل المعايير. فلقد تسبب فى كشف الغطاء عن كل شيء، وفتح كل الملفات، التى تم تجميدها على مدى عقود، فى وقت واحد، وفرض الإجابة عن العديد من التساؤلات المصيرية الكبري.

ثانيا: ولأننا نعيش فترة استثنائية لا يمكن ’’للأطراف السياسية الفاعلة الديمقراطية‘‘؛ بحسب آدم برجيفورسكي، فى وقت التحول الديمقراطى أن تمارس ممارسات سياسية تعود لزمن ما قبل التحول. أو أن تستبق التحول بسلوك يوحى بأن موازين القوة قد استقرت لصالح طرف على حساب باقى الأطراف. ما يصب لصالح الاستبدادين السياسى والدينى اللذين تمت مقاومتهما فى حراك 25 يناير وتمرد 30 يونيو فيلحق بنا النكوص. فيدفع بالمهزومين بأن يتحالفا معا فيما عرف فى أدبيات الثورة الفرنسية، "بالتحالف الأسود" لإعاقة التحول الديمقراطي.

ثالثا: أن دراسة كثير من تجارب التحول الديمقراطى فى العالم تشير إلى أنه من الطبيعى أن تكثر الأزمات. فما يمكن أن يعد "مشكلة عامة" فى الأزمان الطبيعية، يصبح "أزمة سياسية ووطنية" فى أوقات التحول. خاصة وإذا كان التحول "متعدد المستويات" فى الداخل، ويواكب تحولات إقليمية وكونية فى الخارج.

وعليه، تدفعنا هذه الحقائق، إلى دراسة أعمق لطبيعة المرحلة. فمراحل التحول تختلف جذريا عن المرحلة التى تسبق التحول والمعروفة بالسلطوية. ولا المرحلة التى تعقبها حيث تتأسس الديمقراطية. فمرحلة التحول تكون فيها الرؤية السياسية قيد التشكل، والمؤسسات المختلفة تعمل على إعادة بناء قدراتها المؤسسية بما يتناسب والمرحلة الديمقراطية بعد عقود من التخديم على النظام السلطوي، وتحقيق إنجازات تصب لصالح المواطنين.كذلك تراوح فى تفعيل المجال العام ببعديه: السياسى والمدني؛ ليكون قادرا على استيعاب الديناميكية المجتمعية/المواطنية البازغة والمفتوحة الشهية للحركة. ومن ثم لابد للأطراف/البنى السياسية الفاعلة أو عناصر المعادلة السياسية مراعاة الحالة الانتقالية.

لذا علينا، اعتماد "التفاوض" كآلية وحيدة لتأمين الانتقال إلى الديمقراطية بمعناها الواسع الذى لا يقتصر على السياسى فقط وإنما يمتد إلى الاقتصادى والاجتماعى والثقافي. أو ما يمكن تسميته بالديمقراطية الشاملة.

مما سبق، أظن أننا فى حاجة إلى ابتكار آلية تستطيع أن تتعاطى مع الأزمات: بالاستباق بالمنع من جهة، والاستعداد بالقدرة على الاحتواء من جهة أخري. والتعلم من الأزمة. ما يضمن استمرار عملية التحول الديمقراطى وحصار القوى التى تريد تعطيل عملية التحول سواء التى تستخدم القوة أو العنف أو أصحاب المصالح الذين يشككون فى شرعية الحراك القائم والرغبة المواطنية الأصيلة فى التغيير. حيث تعمل هذه الآلية على ضمان التفاعلية بين المؤسسات وبين القوى الحية السياسية. كما تضمن الانسجام بين النص الدستورى وتجلياته القانونية وتطبيقاته على أرض الواقع. والأهم هو الوعى بأن التفاوض فى المجمل لا يكون على حساب تطلعات المواطنين فى التغيير، ولا يرضخ "للقديم الذى ينازع" من أجل قطع الطريق على "الجديد الذى يصارع" من أجل بزوغ فجر الديمقراطية الشاملة.

لقد تنوعت تجارب التحول الديمقراطى وتعددت عبر العالم فى العقود الأربعة الأخيرة. اختلفت فيما بينها من حيث درجات النجاح والسياقات التى نمت فيها هذه التجارب فى موجاتها المتعاقبة: إسبانيا، والبرتغال واليونان، ثم تشيلى والبرازيل، ثم أوروبا الشرقية، فتركيا وجنوب إفريقيا،...،إلخ. إلا أنها اتفقت فيما بينها جميعا على تعرضها للكثير من الأزمات القومية الكبرى إبان خوضها عملية التحول الديمقراطي.

الخلاصة، إذا ما أتفقنا على أن طبيعة مراحل التحول هو كثرة "الأزمات" و"توالدها". وهو ما يتأكد لنا مع مرور الوقت. والأهم كيف أنها تتشابك فيما بينها، ما يفاقم التعاطى معها. فإنه يلزمنا بوقفة خاصة حرصا على نضال مواطنينا، وتطلعاتهم، وبالأخير نجاح التجربة بهم ومن أجلهم...لذا أدعو إلى التنادى بتشكيل آلية وطنية لإدارة الأزمات تتشكل بالأساس من شخصيات عامة ذات قدرات سياسية ومعرفية تتمتع بالقدرة العالية على التفاوض تحظى بإجماع واحترام وطنى لإدارة الأزمات فى زمن التحولات...ونتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern