لا يختلف أحد على ضرورة «تحديث» الجهاز الادارى المصري، كما لا يستطيع أن يجادل أحد فى أهمية «ترشيق»(من رشاقة) هذا الجهاز مما لحق به من «ترهلات» متعددة، ومن ثم «ترشيد» النفقات، و»حصار» الهدر، بما يضمن «تقديم» خدمة ادارية متطورة طبقا للمعايير الدولية للمواطن فى حياته اليومية، كذلك»تدعيم» المشروع التنموى الوطنى على السواء.
فى هذا السياق، تم طرح ما عرف «بقانون الخدمة المدنية» أو القانون 18 لسنة 2015 فى محاولة لإصلاح الجهاز الإداري. ولكن القانون تم الاعتراض عليه فى مجلس النواب. ويخضع القانون الآن من قبل الحكومة لتعديلات تستجيب للملاحظات التى تناولت بنود القانون. والسؤال الذى يفرض نفسه بفرض أن تمت التعديلات المطلوبة وتمت الموافقة على مشروع القانون، هل سوف ينجح القانون الجديد فى تحقيق المستهدف؟...
ظني، أنه لا يمكن تحديث الإدارة المصرية ما لم نصحح نظرتنا لطبيعتها. فالبنية البيروقراطية المصرية لم تعد مجرد «آلية» أو ماكينة، أوكيان تنظيمى يتكون من أفراد يسيرونه.وبفعل التحولات الحادة فى النظام الاقتصادى المصرى لم يعد الجهاز البيروقراطى أداة «محايدة» لتلبية مطالب الحاكم/الدولة/المواطن؛ وإنما هى فى المجمل قوة اجتماعية باتت لها مصالح، ومن ثم «طرف» فى المعادلة المجتمعية، لها تصور لكيفية تدويرها.
وبلغة أكثر تحديدا، يمكن أن نؤكد من دراستنا التاريخية لتطور البيروقراطية المصرية، أن قانون الانفتاح الصادر فى سنة 1974، يعد نقطة تحول تاريخية محورية كان لها «تأثيرات» عميقة فى طبيعة بنية البيروقراطية المصرية...كيف؟
كان لهذا القانون(وامتداداته اللاحقة فى ظل سياسات الليبرالية الجديدة) أثره فى أن تمتلك البيروقراطية المصرية دورا يتجاوز دورها الطبيعى الحيادى فى تنفيذ مطالب الدولة وتوفير الخدمات للمواطنين، فى إطار الصالح العام، كما هو الحال فى الدول المتقدمة. دور يعكس مدى ما تأثرت به من جراء ما طال المجتمع من تحولات نوعية فى بنيته. ولعل أهم ما يمكن رصده فى هذا المقام ما يلي:
أولا: لم تعد البيروقراطية المصرية، هى هذا الكيان التنظيمى الذى يؤدى عملا لصالح أحد بل شريك فى شبكة المصالح التى تبلورت مطلع السبعينيات، من الرأسمالية الطفيلية التى تكونت من السماسرة والوكلاء والمقاولين وتجار الأراضي، والمضاربين،...،إلخ.
والثانى: لأنها من خلال احتفاظها «بأسرار الميري»، أى أسرار المعبد البيروقراطي، أبقت على سيطرتها فى «المنح/المنع»؛ من خلال تفسيراتها للقوانين، واللوائح، والأحكام القضائية، والقرارات الإدارية...أى أنها أصبحت صاحبة مصلحة بفعل الشراكة الاجتماعية فى الصيغة الرأسمالية التى سادت من جهة. كما أصبحت ذات سلطة مُركبة متعددة الوظائف من: ضبط، ورقابة، وتمكين، وتيسير، وغلق، وفرض غرامات،...،إلخ، من جهة أخري...
وعليه فإن أى اقتراب من البيروقراطية، هو فى حقيقته، يعد اقترابا من قوة اجتماعية ذات مصالح. قوة لن تتنازل عن مزايا، وصلاحيات، وقداسة، اكتسبتها: طبقية، وإدارية، سلطوية...قوة اجتماعية قوامها ما يقترب من ثلث سكان مصر(إذا ما أخذنا فى الاعتبار أن السبعة ملايين موظف ـ أو اكثر قليلا ـ الذين يمثلون قوة الجهاز البيروقراطى المصري، إنما يعبرون عن أسر يصل متوسط الأسرة منها ما بين ثلاثة وخمسة أفراد فى المتوسط).
لذا باتت أدبيات الاجتماع السياسى المعاصرة التى تناولت الأجهزة الإدارية فى دول النصف الثانى من القرن العشرين وما بعد، (التى عملت لصالح رأسمالية الدولة ـ فى مرحلة من المراحل ـ ثم ـ لاحقا ـ فى ظل سياسات اقتصاد السوق أو الانفتاح) بأنها تسلك سلوك «الرأسمالية البيروقراطية»، بحسب كثير من الباحثين.(راجع دراستنا الشفرة السرية للبيروقراطية المصرية).
لذا فإنه من الخطأ عند تناول إشكاليات البيروقراطية المصرية الراهنة ـ الآن ـ التعاطى معها باعتبارها كيانا محايدا، وساكنا، ليست له مصالح يدافع عنها. أو بلغة أخرى يمكن تحديث أو إصلاح الجهاز الإدارى ايا كان المصطلح ـ بمعزل عن «التحولات/التحورات» التى مر بها على مدى عقود. فالظن بأنه يمكن تطوير الإدارة فى مصر من خلال إعادة الهيكلة الإدارية أو التقنيات المستخدمة أو تعريض أفراده لدورات تدريبية،...،إلخ، فقط، دون إدراك ما طرأ على بنية البيروقراطية المصرية من «تحولات/تحورات» فإننا لن نحقق ما اى تقدم فى هذا المقام...وإنما لابد من فهم دلالة «تحول»/»تحور» البيروقراطية المصرية إلى أن تكون جزءا من الصيغة الرأسمالية ـ تجاوزا ـ التى توجه وتحرك المسار الحياتى لنا منذ عقود.
إذن، التعاطى بذهنية إجرائية «تقنية» فى مسألة الإصلاح الإدارى بمعزل عن فهم ما آلت إليه طبيعة البيروقراطية كقوة اجتماعية، من جهة. وادراك أن هذا التحول هو نتيجة مباشرة لخيار اقتصادى أدت سياساته إلى ترهل الجهاز الإداري. ومن ثم المعاناة منه كدولة وكمواطنين والحاجة الماسة إلى إصلاحه. والأهم هو «تحيز» الإدارة كقوة اجتماعية. ومن ثم فإن أى محاولة لتطوير البيروقراطية المصرية عليها أن تقرأ ملامح التحولات التى مست بنيتها. وفى ضوء الرؤية الشاملة للمشروع التنموى المطروح يتم تطوير البنية الإدارية...ونتابع...