نهاية الرأسمالية (4):عدم القدرة على التصحيح

سألنى صديقي: لماذا تصر على أن الرأسمالية تعيش مرحلة النهاية؟. ألم يثبت التاريخ أن الرأسمالية قادرة على أن تعبر أزماتها دوما؟ أو بلغة فؤاد مرسى تجدد نفسها. ولماذا تصر بعض الدول على اتباع نفس السياسات التى ينقدها العالم الآن على المستويات النخبوية والمؤسسية والأكاديمية والشعبية؟. وتعددت الأسئلة وأظنها مشروعة تماما...

إن جوهر الفكرة التى تقول بنهاية الرأسمالية سواء لدى ديفيد هارفى أو غيره، تنطلق من أن الرأسمالية الجامحة الراهنة باتت عصية على التصحيح. ذلك لأن من يحركها يرفض تماما الأخذ بأى حلول تمكنها من تجديد نفسها كما حدث فى الماضي. ومن ثم فإن حديث النهاية سوف يظل قائما متى بقيت السياسات الخائبة مطبقة.فالمراجع لأى أزمة واجهتها الرأسمالية تاريخيا سوف يلحظ كيف تم استيعابها من خلال سياسات تصحيحية تراعى المواطنين من الطبقات الوسطى والفقيرة.

وفى هذا السياق، يرصد المؤرخون كيف حدثت هذه التصحيحات لمواجهة أزمتين كبيرتين. الأزمة الأولى: عندما تعرضت أوروبا لأول أزمة كبرى للتراكم الرأسمالى فى الفترة من 1845 ـ 1850، بسبب فائض رأس المال الذى افتقر إلى وسائل التوظيف المربح. وهو ما أدى إلى تنامى الحركات الثورية والاحتجاجية وانتشارها فى ربوع أوروبا. وعليه واجهت الدول الأوروبية هذه الأزمة عن طريق حركة مزدوجة من استثمارات طويلة الأجل فى مجالين هما: الأول: البنية التحتية. الثاني: الامتداد الجغرافى والتركيز على التجارة عبر الأطلسي...

أما الأزمة الثانية: فبدأت عندما ضعفت التصحيحات السابقة على استيعاب فائض رأس المال وفائض العمالة. وهو ما أدى مع نهاية العشرينيات إلى حدوث الركود الكبير حيث أفلست آلاف البنوك، وانخفض حجم الأجور المدفوعة إلى 60 %، بالإضافة إلى بطالة وصلت إلى 12 مليونا من العاطلين،... الخ. إلا أن ظهور كينز استطاع أن يجدد الرأسمالية من خلال رؤية مفادها:النقد الشديد على قانون ساى للأسواق، والكلاسيكيين الذين اهتموا أساسا بتحليل العلاقات الطبقية التى تحدد الأنصبة النسبية من الدخل القومي... فإن كينز قام بتقديم تفسير القوى التى تحدد مستوى ذلك الدخل.وضرورة التدخل للتأثير فيحجم الطلب الكلى الفعال من قبل الدولة. ونجحت تصحيحات كينز فى توفير سياسات اقتصادية ذات طابع اجتماعى تؤمن حياة العمال، وتحقق قدرا من المساواة فى المواطنة.وهى السياسة التى عرفت بسياسة الصفقة الجديدةThe New Deal.

إلا ان التغير الجوهرى الذى أحدثته سياسات الليبرالية الجديدة فى بنية الرأسمالية التاريخية قد سار بها مسارا جديدا. وحول ذلك يقول هارفي: إن اتباع الرأسمالية لما عرف تاريخيا بالتصحيحات الزمانية والمكانية،لم يعد مجديا. ذلك لأن الأزمات المالية المتتالية قد ضربت بعرض الحائط حقوق المواطنين بالمعنى الاجتماعى الواسع. وبدلا من إجراء أى تصحيح كما حدث فى الماضى تمادى الليبراليون الجدد فى سياساتهم التى تقوم على الاستهلاك والمضاربات وسطوة ما يعرف فى الأدبيات برأس المال المالي، مما جعل التصحيح عصيا.

فلقد كانت رأسمالية الماضى بالرغم من أى انتقادات ـ ذات طابع انتاجي: تبتكر وتنتج وتصدر وتنمى وتراكم الثروات، من أجل معاودة الانتاج. بينما رأسمالية الليبرالية الجديدة تقوم على صناعة المال، من خلال: البنوك، وشركات التأمين، وصناديق الاستثمار، والمعاشات،...، إلخ. ومن ثم إعادة انتاج المال عبر الحدود من خلال المضاربات وشراء الأسهم والاقتراض والاستهلاك والتلاعب بالفوائد. مما جعل العالم سوقا تعلو الدولة.

ونتيجة لما سبق، لحق بالرأسمالية الجامحة الراهنة تناقضات عدة تمثل تهديدا حقيقيا لها تؤدى بها إلى نهاية مأساوية. ويرصد هارفى سبعة عشر تناقضا يصنفها فى ثلاث فئات نوعية كما يلي: أولا:التناقضات الجوهرية/الرئيسية؛(وعددها سبعة) ويناقش فيها قضايا تتعلق بالآتي:جوهر رأس المال، مفهوم المال، الدولة الرأسمالية، العلاقة بين رأس المال والعمل، رأس المال عملية أم شيء، التراكم الرأسمالي،...،إلخ. ثانيا: التناقضات المتحركة؛(وعددها سبعة)،حيث يتتبع فيها: القوة المحركة التى تقف وراء تطور رأس المال: تاريخيا وجغرافيا.

وفى هذا المقام يتعرض لموضوعات وقضايا مثل:تطور التكنولوجيا وتأثيرها، الاحتكار والمنافسة الرأسمالية، التنمية الجغرافية غير المتكافئة، الدخل والثروة(التوزيع والتقاسم العادل)،تقسيم العمل،...،إلخ.ثالثا: التناقضات الخطرة؛(وعددها ثلاثة)، وهى التى قد تؤدى إلى تصدع رأس المال وحدوث أزمة كبرى تاريخية بفعل عدم القدرة على تحقيق العدالة المطلوبة بين المواطنين: من يملك ومن لا يملك. كذلك الوصول بالمجتمع إلى ذروة اللامساواة الطبقية فى سياق مجتمع شمولى وقمعى يتعامل مع أفراده باعتبارهم ما قبل مواطنين.

مجتمع محافظ ولا إنسانى ومقيد للقدرات الإنسانية وللإبداع. ومدمر للبيئة والمناخ بسبب جشع المحتكرين. ودلالة ما سبق عند هارفى هى أن قدرة المحرك الاقتصادى للرأسمالية لن تستطيع الاستمرار فى وظيفتها ومن ثم تعريض الحياة الانسانية للخطر. مما يدفع بالكثير من الإشكاليات المصيرية إلى أن تفرض نفسها على مائدة الحوار الإنسانى الكوني...ونتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern