تجديد الرؤية الدينية، مهمة وعملية تاريخية...لها شروطها وجدول أعمالها...وهى ضرورة لمواكبة التحولات التى طرأت على واقعنا، وتجاوز الزمن النيوليرالى السافر الذى أنتج رؤية دينية باهتة...وقبل أن نفسر، نذكر بطرحنا حول تجديد الرؤية الدينية...
أولا: التمييز بين الدين ـ الوحى وبين الرؤية الدينية. حيث الأولى ترتبط بالمطلق والمقدس. أما الثانية فتتشكل وفق السياق المجتمعى والتاريخي، ومصالح القوة الاجتماعية، وعلى الأخص المهيمنة، وتتفاعل مع الصراع الاجتماعى القائم ـ سلبا أو إيجابا ـ فى لحظة تاريخية معينة.ثانيا: الأخذ بمفهوم الرؤية الدينية باعتبارها أشمل من الحديث فقط عن الفكر أو الخطاب الدينيين أو الممارسة كل على حدة. حيث يتكون الفكر كنتاج للسياق، بالمعنى الواسع، ومن ثم يتشكل الخطاب.
وفى ضوء الفكر والخطاب تتحدد الممارسة العملية على أرض الواقع. وهذه المنظومة هى التى تشكل الرؤية الدينية. ثالثا:لذا نجد فى مرحلة من المراحل أن الرؤية الدينية السائدة فى أحيان قد تكون راديكالية أو تكون محافظة. وفى أحيان أخرى نجد التنافس قائما بين هاتين الرؤيتين. أو تتردى الرؤية الدينية إلى الحد الذى تسود فيه القيم الثقافية المتخلفة من: شعوذة ودجل وخرافات. وقيم اجتماعية/اقتصادية رجعية تصب لصالح قوى معينة وتحول دون تحقيق العدل بين الجميع حيث تنحاز إلى العنصرية والنظرة الطبقية المتعالية والتمييز بين المواطنين. وقيم سياسية تكرس للاستبداد وتطلق العنان لاستخدام العنف المادى مع المغايرين،...إلخ.
حيث يتم كل ذلك باسم الدين. وهو ما استدعى الدعوة إلى تجديد الرؤية الدينية. رابعا:وعليه وجدنا عندما تتبعنا مسيرة الرؤية الدينية فى مصر الحديثة كيف تتغير الرؤية الدينية من النقيض إلى النقيض ذلك لأن السياق قد تبدل.فرصدنا فى هذا المقام أربع مراحل كما يلي: أولها المرحلة التحديثية من 1805 إلى 1905، وثانيها المرحلة الليبرالية /الراديكالية من 1919 إلى 1969، وثالثها المرحلة المحافظة من 1969 إلى 1979، ورابعها المرحلة الشكلية التى توافقت مع الزمن النيوليبرالي: ززمن اقتصاد السوق السافرس والذى أظنه سقط مع الانهيار المالى الشامل فى 2009...وها نحن فى الفترة الصراعية التى يجب أن ننتج فيها رؤية دينية تتناسب مع حراك يناير ومطالبه واستحقاقاته أو مع ززمن لا نيو ليبرالى أكثر عدلا وحرية وانسانيةس...
وعليه ما هى الشروط المطلوب توفرها لإنتاج هكذا رؤية؟...وما هو جدول الأعمال المطلوب اعتماده؟...
فى هذا المقام، نقول إنه لا يمكن انتاج رؤية دينية جديدة بغير أن ندرك أن المعالجات اللغوية ذات الطابع الذهنى المجرد قد جاوزها الزمن. لأن المقاربات فى هذا المجال باتت مركبة الأبعاد ومتعددة المستويات. فلو أخذنا مجموع الابداعات التى أنتجت فى مجال العولمة والدين والثقافة سوف نلحظ كيف تتداخل المعارف والعلوم. وفى مجال علم التأويل هناك أربع موجات معرفية فى هذا النطاق لا أظن أننا على علم بها. كذلك لابد من ادراك كيف التحم رموز الحركات الدينية التقدمية بالمواطنين وتم انتاج رؤى دينية تنموية وتعليمية مثل ما جرى مع حركة باولو فريرى التى رفعت شعار التعليم حرية، وحركة لاهوت التحرير التى عمقت دور المواطنين على المستوى القاعدى بأنفسهم وذواتهم ومكنتهم من الاعتماد على أنفسهم ورفع الوعى الشامل لديهم تجاه الله والعالم والحياة.
ونشير هنا تحديدا إلى أنه كيف استفادت حركة لاهوت التحرير من جديد علم الاجتماع نهاية الستينيات وعلوم التأويل واليسار الجديد ومن فكر التنمية البازغ ونظريات عدم التكافؤ والحركات المدنية والاحتجاجية الستينية فى بلورة رؤية دينية حررت الناس من الخيرية والاعتمادية والتبعية. وعليه أصبحوا رصيدا للانتقال الديمقراطى والنهوض الذى جرى لاحقا.
بلغة أخري، لابد من تجاوز الرؤية الدينية التى تشكلت وسوغت تداعيات سياسات اقتصاد السوق من خلال التحالف التاريخى الكونى بين الثروة والدين والذى كان نموذجه الأبرز زحركة اليمين الدينى فى الولايات المتحدة الأمريكيةس(والذى كان لنا شرف أن نقاربها ومتابعة مسارها منذ منتصف التسعينيات)،وهى مهمة تاريخية لذا وصفنا تجديد الرؤية الدينية بالعملية التاريخية. وهى لن تتم إلا بإعادة الاعتبار إلى المقاربات العقلية للقضايا الإيمانية والمقاربات المجتمعية المعنية بالمساواة وفهم ما يطرأ على البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكيفية إنتاج تأويلات دينية ذات تجليات إنسانية تتطرق إلى مساحات تتعلق بمستقبل الانسان...ما يستلزم وضع جدول أعمال جديد يتضمن مفاهيم وموضوعات وقضايا مثل:تمكين الانسان، وإقامة العدل، وحرية الاختيار الانساني،والمصالحة مع الحداثة، الأخطار البيئية والمناخية والأمراض المتوطنة والزيادة السكانية االلغميةب وجغرافيا التوتر والتنمية غير المتساوية والفساد والتنمية الانسانية ومنظومة الحقوق وحماية التعددية والاندماج المتكافئ، وفك الارتباط بين الدين والدجل،...،إلخ....
أى فى المجمل تجاوز الرؤية الدينية الشكلية ـ التى اهتمت بالقشور وعملت على بقاء كل شيء على حاله كما خدمت على الاستبداد ـ التى أفرزها الزمن النيوليبرالي،...بإنتاج رؤية دينية جديدة فى حالة اشتباك فاعل وجدل شامل مع قضايا الانسان الحية والحقيقية لا الميتة والزائفة...