كانت الندوة التى نظمها بيت العرب الإسبانى حول »المسيحيون العرب«، منتصف إبريل الماضى، مختلفة كليا عن الندوات التى أقيمت حول هذا الموضوع فى السابق...
فلقد كان هناك رغبة حقيقية فى التفهم فى إطار التحولات التى شهدتها المنطقة خلال »سنوات الحراك«، من جهة. ومحاولة التفكير المشترك لإيجاد حلول شمولية داعمة ليس للمسيحيين العرب وإنما لمجتمعات دول المنطقة، من جهة أخرى...ويعود هذا لأمرين هما الأول، ان إسبانيا لها تجربة مهمة فى التحول الديمقراطى يمكن أن تكون ملهمة لواقعنا. والثانى، أن حوض البحر الأبيض المتوسط يجمع إسبانيا بعدد مؤثر من المجتمعات التى شهدت »حراكات«مجتمعية، من جهة أخرى...من هنا كان اهتمام الخارجية الإسبانية باللقاء وهى التى يعمل تحت مظلتها بيت العرب،كذلك المطبخ الديبلوماسى للأحزاب الإسبانيةوالقصر الملكى، وأيضا الديبلوماسية المصرية النشطة فى إسبانيا...
فى هذا السياق، حظى الحديث عن المستقبل فى بحثنا المطول على اهتمام كبير...وقد استهللته بمقولة لجورج قرم خلاصتها أن »إشكالية المسيحيين العرب هى نتاج »ألاعيب جيوبوليتيكية«(1994). تتعدد أسبابها ودوافعها. فمنها، أولا: صراعات الداخل. وثانيا: تدخلات الخارج. وثالثا عدم قدرة البنى المجتمعية على استيعاب المسيحيين فى اندماج أفقى باعتبارهم مواطنين، لا فى انتظام رأسى أى كتلة دينية مسيحية فى مقابل كتلة دينية مسلمة. ورابعا: فشل أنظمة الحكم الوطنية على التعاطى المبتكر مع إشكاليات المسيحيين العرب والتراكم على انجازات مرحلة النضال الوطنى. حيث تركت أمرهم للبيروقراطية الأمنية والإدارية للتعاطى معهم كشعبة دينية ملحقة بالحزب الحاكم فى بعض الدول، أو كجماعة دينية/ملة تتعاطى مع أفرادها عبر السلطة الإكليروسية. أو منح بعض »كبراتهم« منحا سياسية، حيث تحتكر عائلات بعينها الحضور السياسى أو أفرادا يحسبون على السلطة. ما حجز الحضور السياسى عن قوى مجتمعية بازغة من المسيحيين مارسوا السياسة والعمل المدنى على قاعدة المواطنية، فى بعض الدول. أو فى أحسن الأحوال اتباع نظام المحاصصة السياسية على ألا تتجاوز حركتهم المجال الخاص فى دول أخرى. وخامسا: فشل الإسلام السياسى أن يقدم فقها حاسما فيما يتعلق بقضية المواطنة، رغم بعض الاجتهادات المعتبرة، إلا أن فقه الذمية ظل مهيمنا، إلى أن تم إحلاله بفقه الارتداد ومن ثم ما يترتب عليه من أحكام.
وعليه، نستدعى ما كتبه قسطنطين زريق ـ 1981، ودوما نستعيده فى هذا المقام حيث يقول:«إن مشكلة المسيحيين العرب، بصفتهم أقلية فى المجتمع العربى الذى تنتمى كثرته إلى الإسلام، هى مشكلة تشترك فى مسئوليتها الأكثرية والأقلية، ولا يمكن أن تحل حلا جذريا إلا بتحولات جذرية فى الجانبين معا، وذلك بالإقبال على بناء مجتمع قومى على أساس مصلحة الشعب ومنجزات العلم والحضارة والمساواة القانونية والعملية بين المواطنين والعدالة بينهم، والتحول من تسييس الدين إلى تقصى جوهره الروحى...والواقع أن الحديث عن المسيحيين والمستقبل يفتح قضية العرب بكاملها وقضايا المستقبل بمجموعها...فى هذا الإطار، يمكن أن نضع ثلاثة سيناريوهات مستقبلية وذلك كما يلي:
أولا: سيناريو التصحير/الغرق؛ ما »الصحراء إلا الأحادية« ـ بحسب أدونيس ـ فى أنقى صورة. ومن ثم تستمر قوى الأحادية فى تفريغ المنطقة من الآخرين المختلفين فى ظل تدهور الدولة العربية الراهنة وغيابها. بيد أن من لا يعى أن الفشل فى مد الأفق التعددى والحفاظ عليه وتثمينه. فإنه سيأتى اليوم الذى يضيق بذاته. أنه سيناريو استمرارية الأوضاع العربية على حالها الراهن. حيث تسود قوى الظلام أو أمشير الأسود والدموى. ثانيا: سيناريو البقاء الحرج؛ ويعتمد هذا السيناريو على انتعاش نسبى للدولة العربية الراهنة. يتضمن بعض المصالحات والإصلاحات الشكلية والسطحية. أى انتعاش لا يرقى لدفع الأحوال ومن ثم العباد ومن ضمنهم »المسيحيون« إلى التقدم الحقيقى وإحداث تغييرات جذرية بالدرجة التى تضعنا فى مصاف المتقدمين. إنها حالة تؤمن البقاء، ولكنه بقاء حرج معرض للتدهور مع كل انتكاسة أو نكوص. هنا ستظل الرؤى المتناقضة حاضرة عند المسيحيين طالما لم ثورة ثقافية فى المنظومة الثقافية العربية تصبح قيمة التعددية بموجبها قيمة راسخة وأصيلة فى هذه المنظومة، لا عابرة أو زائفة.
ثالثا: سيناريو تجديد الحياة المشتركة/ سيناريو التحرير/الاندماج؛ وأقصد ما جرى فى التحرير من حراك وطنى يناير 2011. حيث تشارك كل المصريين فى رفع شعارات واحدة تعبر عن معاناتهم المشتركة.ومن ثم حولوا المواطنة الى فعل حى على أرض الواقع؛ »لقد كانت الحالة التحريرية حالة اندماجية بامتياز تجلت فى ثلاثة »توافقات« وذلك كما يلي:
أولا: حول طبيعة السلطة السياسية: المدنية بغير خصومة مع الدين...وثانيا؛ حول المجال العام: كمكان للقاء بين المختلفين لا المتماثلين، ونسبيته، وثالثا: حول الوطن«المركب الحضارى لا العنصر الواحد«،
إنه السيناريو الذى يمكنه أن يجدد الحياة والمجتمع والدولة...وهو الذى نعيش على أمل تحقيقه وينبغى النضال من أجل أن يكون حقيقة...لأنه لا يمكن أن نتصور المنطقة دون مسيحييها...