المسيحيون العرب بين الحضور الفاعل والغياب والتغييب

المسيحيون العرب؛ كان موضوع اللقاء الذى نظمه بيت العرب الإسبانى بمدريد، منتصف ابريل الماضي.

 وقد شاركنا فيه بورقة عنوانها: «مسيحيو المنطقة من منظور المواطنة لا «الذمية» أو «الملية الجديدة»؛ وقد عرضنا إطارها النظرى فى الأسبوع الماضي... ونستكمل هذا الأسبوع الحديث عن المسار التاريخى للمسيحيين العرب، وموجات الخروج المتعاقبة وسيناريوهات المستقبل لهم...

المتتبع لحركة المسيحيين العرب خلال المائتى سنة الماضية يمكنه أن يرصد ثلاث محطات رئيسية لهم نرصدها كما يلي: المحطة الأولى هى مرحلة النضال الوطنى والتأسيس النهضوي؛ حيث أسهم المسيحيون مع مواطنيهم من المسلمين فى مواجهة المستعمر، وتفاعلوا مع الحراك الوطنى البازغ، وكانوا من مكوناته الأساسية كما أسهموا فى بناء النهضة العربية الحديثة. واستطاعوا أن يصالحوا بجهدهم المعرفى والعلمى والابداعى بين التحديث والحداثة.أماالمحطة الثانية فهى مرحلة ما بعد الاستقلال أو مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث أسهم المسيحيون فى بناء الأوطان بعد أن نالت استقلالها. وكانت بصماتهم حاضرة فى شتى المجالات.

ولكن بفعل ما واجه مشروع الاستقلال والتعثرات التى طالت بناء الدولة الحديثة من تحديات تراوح حضورهم بين الفاعلية والانكفاء الديني. كذلك عملت الكنيسة فى خدمة مشروع بناء دولة ما بعد الاستقلال.وأخيرا المحطة الثالثة،مرحلة التوترات/التناحرات الدينية والمذهبية: وهى المرحلة التى بدأت عقب هزيمة 1967 حيث تراجع الحضور المسيحى بدرجة لافتة وبدأت موجة الهجرة الكبيرة أو «الخروج الكبير القسري» الثالث (سبقه أولا ما يمكن وصفه بالخروج البيني/الإقليمى ولجأ إليه مسيحيو لبنان والشام، عقب الفتنة الدينية الممتدة التى جرت ما بين عامى 1840 و1861، وثانيا (الخروج الإرادى من الإقليم)...والمراجع المتأنى لهذه المحطات سوف يلحظ العلاقة الجدلية والشرطية بين السياق المجتمعى وبين الحضور المسيحى الفاعل والغياب والتغييب.

ويعكس ما سبق أن «سؤال الوجود» عبر التاريخ هو السؤال «الأصيل» فى ما يتعلق بمسيحيى المنطقة...وليس أى سؤال آخر ومنها على سبيل المثال سؤال الأثنية. فكل الأسئلة التى أثيرت عبر كثير من الندوات والكتابات يمكن وضعها تحت هذا العنوان العريض...وخاصة وكما هو واضح من القراءة التاريخية أن لحظات النهوض كانت من الرحابة بمكان من أن تستوعب المسيحيين بكل أريحية...والعكس صحيح فعندما جاءت مرحلة النزاعات الطائفية والدينية والسياسية الاستقطابية أدت إلى إثارة الكثير من المخاوف والهواجس ليس فقط حول الهوية أو امكانية المشاركة من عدمها...الخ، وإنما باتت تولد «قلقا وجوديا» لدى المسيحيين فى المنطقة، ولكنه لم يمنع «رجاؤهم فى صناعة المستقبل المشترك»...وظنى أن اللجوء إلى التسلح بالإثنية أو الانكفاء أو العزلة يكون فى إطار «حمائي» وظيفي.

واقع الحال كانت المحطة الثالثة حاسمة بكل المقاييس. فلقد شهدت هذه المحطة، ما يمكن وصفه «اضمحلال الوجود المسيحي»، (بحسب أحد الباحثين)، من حيث تناقص الوجود المسيحى فى القدس، والهجرة الجماعية لمسيحيى العراق، والرغبة العارمة للهجرة من قبل بعض الشرائح الاجتماعية فى مصر ولبنان، وأخيرا النزوح الجماعى من سوريا، والاستهداف من قبل جماعات العنف المسلح،..إلخ...وهنا نتساءل ما أسباب ذلك؟

لا يمكن الإحالة إلى سبب وحيد، مثلما يحاول أن يفعل البعض...فهناك من يرُجع المسألة إلى:أولا: تصاعد حركات الإسلام السياسى التى أعادت النظر فى الوضع القانونى لغير المسلمين. وثانيا: للجماعات التى باتت تستخدم العنف المادى فى ضوء ذلك وتعمل على أن يعيش المسيحيون وهم صاغرون أو يقتلوا أو يتم تطهير الأرض منهم.وهناك من يحيل الأمر إلى: ثالثا: فعل النظم الشمولية وتعثر ترسيخ مفهوم المواطنة التى تعنى المساواة الكاملة والانسداد السياسى وإبقاء المسيحيين فى إطار الملة/الطائفة.ورابعا: التدخلات الغربية التى تبين عدم صدقها والتى أضرت أكثر مما أفادت.وخامسا وأخيرا هناك من يشير إلى:أثر الخيارات غير الصائبة من المسيحيين أنفسهم...إلا أننا نميل إلى الأخذ بكل ذلك معا...إذا تدرج وضع المسيحيين العرب من الحضور القلق إلى الوجود المشروط وأخيرا الإقصاء القسري/النحري.

وعليه وفى ضوء ما سبق سوف نجد كيف أن المسيحيين فى المنطقة قد تراوحوا بين الحضور والغياب حسب السياق المجتمعي. وبالمعنى السياقى يمكن أن نؤكد أن ما أصاب المسيحيين فى المنطقة قد طال المسلمين أيضا، مما يعنى أن الإشكالية أعقد من أن تكون دينية محض. إلا أنها كانت أكثر تأثيرا على المسيحيين نظرا لعددهم فغابوا.

وعليه، مما سبق من محصلة المدخل النظرى والمسار التاريخى لابد وأن نتطلع إلى المستقبل...فبالرغم من سواد اللحظة إلى أن الحراك والتمرد قد أعادا الأمل فى إمكانية أن يكون هناك سيناريو يعيد الأمل لمنطقتنا بالرغم من أى إعاقات تدعم سيناريوهات غير طيبة...وهذا ما نفصله لاحقا حول »المسيحيون العرب وسيناريوهات المستقبل«...ونتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern