فى عام 2005 كنت عائدا من الولايات المتحدة الأمريكية عبر روما. وكان على أن أبقى فى المطار عدة ساعات لاستئناف الرحلة إلى مصر.
أثناء الانتظار لاحظت وجود مجموعة من الشباب والشابات الهنود ينتظرون طائرتهم التى تعود بهم إلى الهند. ولفت نظرى كيف يجلسون فى هدوء حيث انكب كل واحد/ واحدة منهم على تشغيل «اللاب توب» الخاص به حتى موعد قيام الطائرة. وبالطبع لم يمنعهم ذلك عن التواصل الانسانى المحسوب ـ كل فترة. الأهم هو رد فعلهم المثير عندما أعلن عن موعد إقلاع الطائرة وانه حان موعد التوجه إليها. حيث تحركوا إليها فى نظام مثير عقب أن وضعوا اللاب توب فى الحقيبة المخصصة، بالإضافة إلى حقيبة صغيرة إضافية مع كل فرد من المجموعة.
ظل هذا المشهد ـ السوسيولوجى بامتياز ـ فى ذاكرتى أستدعيه من حين إلى آخر، محاولا أن أجد تفسيرا له. خاصة أن اللقطة المقابلة لهذا المشهد هو حالة التسارع والصخب والتزاحم على المخرج المؤدى للطائرة المتجهة لمصر والحقائب الزائدة عن الحد المنطقي، والتى تتنوع بين الجلدية والبلاستيكية والورقية،..،إلخ. وبعد عشر سنوات وجدت الإجابة فى كتاب «أمة من العباقرة: كيف تفرض العلوم الهندية هيمنتها على العالم»، لأنجيلا سايني، والذى تعرضنا له فى الأسبوع الماضي. وفصلنا كيف أسست الهند نهضتها العلمية المعاصرة وفق مقومات أربعة أخذت بها القيادة السياسية متمثلة فى جواهر لالنهرو مطلع الستينيات. فلقد وثقت المؤلفة ثمار هذه النهضة فى كتابها، من خلال مقابلات مباشرة مع آباء نهضة الهند العلمية والتكنولوجية، وزيارات ميدانية لأنحاء الهند المختلفة لطلاب كليات الهندسة، وطلائع علماء الفيزياء فى المنشآت النووية، وعلماء الوراثة فى المختبرات المستقبلية، وعمالقة التكنولوجيا فى شتى المجالات.
فى هذا السياق، وجدت الإجابة عن سلوك شباب الهند فى مطار روما والتى يمكن أن نوجزها فى كلمتين هما: «الألعاب الذهنية»... هذا هو «السر الذى جعل هذه الدولة عبقرية بشكل بالغ الوضوح»، بحسب مؤلفة الكتاب... ففى الوقت الذى «تضج فى شوارع الهند بالازدحام المروري، حيث تتدافع عربات «الريكاشة» البخارية، لإيجاد مساحة لها بين الدراجات البخارية الصغيرة والسيارات، تجد قاعات الألعاب الذهنية مليئة بالمئات من الشباب الذين يلعبون فى صمت»... فالدراسة العميقة للواقع الهندى وقدراته ومن ثم طموحاته وتطلعاته، وهذه بالمناسبة معادلة أى مشروع تنموى حقيقي، أشارت إلى أن الرياضات التى تناسب الهند هى تلك التى تجمع بين العين واليد والذهن مثل: البلياردو والشطرنج. وعليه توسعت الهند فى تأسيس مراكز تحت عنوان: «مركز تدريب الأولمبياد الدولى للعلوم» (ويوحى الاسم لأول وهلة بأن هذا المركزمخصص للألعاب الأوليمبية. إلا ان الهند أدركت بأن الألعاب الأوليمبية تحتاج إلى ميزانيات مذهلة وفى الوقت نفسه يقول التاريخ أن نصيب الهند من ميدالياتها يعد ضئيلا جدا. فمثلا حصدت الهند ميدالية واحدة فى أولمبياد 2004)...إذن، ما الدور الذى يقوم به هذا المركز الأوليمبى الدولى للعلوم؟
يقوم هذا المركز بتنظيم مسابقات ذهنية بين الهنود من الفتيان/ الفتيات، واقرانهم من أنحاء العالم فى سلسلة من الاختبارات النظرية والتجارب العملية فى مجالات الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات والفلك إلى جانب اللعاب الذهنية وعلى رأسها الشطرنج وكل ما هو إلكترونى متجدد... ويسجل لنا الكتاب إلى اى مدى تحظى هذه البطولات بإقبال جماهيري... لا يقف هدف المسابقات عند معرفة الجواب الصحيح وإنما الإبداع فى صياغة إجابات بطريقة غير نمطية من جهة، وربما نقد ما هو متعارف عليه أو متواتر...وتشير النتائج إلى مدى تفوق الشباب الهندى وتميزهم... والسؤال الذى يطرح نفسه ما هى الخلطة الهندية التى أدت إلى هذا التفرد؟
يقول أحد أهم علماء الهند المعاصرين: «أن أولئك الفتيان والشباب لا يمثلون استثناء، بل هم أعظم أمثلة لمنظومة تعليمية تفرز الملايين من خيرة طلاب العلم على مستوى العالم كل عام،...، إن قصة نجاح أولمبياد العلوم هى قصة نجاح لكل طالب علم عادى فى الهند،...»... ما دلالة هذه التجربة؟
تدل هذه التجربة على منظومة تتكون من عناصر عدة متشابكة وذلك كما يلي: الأول المساواة فى اتاحة فرصة التعليم للجميع سواء للطلبة العاديين أو غيرهم. الثانى إعادة النظر فى مناهج التعليم لتكون مواكبة جديد العصر من حيث: ساعات الدرس، ونوعية المواد ومضمونها وكيفية تقديمها، وورش العمل، وتصميم المختبرات،...،إلخ. الثالث اعتبار التعليم عملية تكوين ذهنى بالأساس تسلح المتعلم/ المتعلمة بأساسيات التفكير المنطقي/ المركب. ما يؤهل الشباب التعاطى مع العلوم الحديثة بسهولة ويسر والقدرة على توظيفها فى تطوير الواقع. الرابع فتح المراكز الأوليمبية التعليمية لممارسة «الألعاب الذهنية» على نطاق واسع فى ظل تنافسية ابتكارية بديعة...ذلك لأنهم أدركوا أهمية «جيل واي» من الشباب... وهو أمر ممتع وشيق يحتاج إلى تفصيل... ونتابع...