مدوا أيديكم أو ابتعدوا

فى معرض الكتاب الأخير، جرت واقعة لم يعرها أحد الاهتمام على أهميتها القصوي، وتصب فيما نحاول أن نشير إليه فى المقالين الأخيرين حول المسألة الشبابية...

تتلخص هذه الواقعة، بحسب ما جاء فى أكثر من تقرير صحفي، بأنه كانت هناك ندوة مخصصة لتكريم الراحل الكبير الأستاذ الدكتور حامد عمار أحد بناة المواطنة المصرية الكبار من خلال دراساته التربوية والاجتماعية، وصاحب الكتاب الصغير الحجم الكبير القيمة «فى بناء البشر» والذى يعد مرجعا حول الشخصية المصرية. وقبل موعد الندوة فوجئ منظمو اللقاء بحشد «ألفى» يملأ القاعة. فظنوا للوهلة الأولى أنهم قد جاءوا لحضور الندوة المخصصة للعالم الجليل، إلا أنهم سرعان ما تبينوا أن الحضور الشبابى الحاشد ما هو إلا حضور مبكر يضمنون به موقعا فى الفقرة التالية من البرنامج والمخصصة لفنان شاب يغنى ويكتب الشعر.والذى يعرفه الشباب جيدا ويتواصلون معه عبر «الفيس بوك». وأكدت التقارير الصحفية أنه وقع آلاف النسخ من ديوانه لمعجبيه من الشباب، بالإضافة إلى تقديمه إبداعاته بصورة حية للحاضرين...وفيما عدا بعض المقالات التى أدانت الواقعة وانتقدت إبداعات الفنان الصاعد، لم ينتبه أحد إلى الدلالة الرمزية للواقعة، والتى أظنها تحمل الكثير والكثير من الحقائق عن شباب اليوم وزمنهم...نذكر ثلاثا منها...

الحقيقة الأولي: أن شباب اليوم بات يختار ما يراه يعبر عنه وعن واقعه. اختيار خارج «إكليشيه الزمن (الماضي) الجميل»، الذى يصر البعض منا على فرضه فرضا على الشباب. لذا نجده منصرفا يعمل فى هدوء على أن يكرس «زمنا جديدا» له مبدعوه ورموزه وشخصياته التى تحظى بشرعية الشباب مباشرة دون وصاية أو توجيه من كهنة الإعلام والثقافة أو من مؤسسة. زمن جديد يحمل أفكارا وانتاجا ثقافيا متنوعا يرون فيه أحلامهم وهمومهم بصورة مباشرة بلا تجميل أو تزويق.رموز فنية وأدبية منهم.(وقد أشرنا فى مقالنا السابق بأن زمن النجم الواحد المصنوع عبر المؤسسات التقليدية والذى يعيش مع المرء كل دورات حياته لم يعد قائما).

الحقيقة الثانية: أن هناك شبكة تواصل وتضامن يصنعها الشباب فيما بينهم ـ على اختلافهم ـ موازية لكل ما هو قائم من شبكات منظمة ومؤسسية. وتعمل هذه الشبكة على خلق عالم خاص بهم يصنعون فيه نجومهم ورموزهم وفق معاييرهم ومتطلباتهم الحياتية المتغيرة...ويتعقبون من خلالها نجومهم، ويتواعدون فيما بينهم على الوجود والحضور لدعمهم.

الحقيقة الثالثة: هى أن الشباب لا يبدون أى اهتمام لأى ملاحظات أو انتقادات يتم توجيهها لنجومهم وما يقدمونه، ومن ثم ضمنيا لذوق الشباب. فلقد قرروا أن يعطوا ظهرهم لماكينات الضبط فى شتى مؤسسات التنشئة المصممة للتوجيه والإرشاد. ومتى اجتمعت هذه الحقائق الثلاث: اختيار نجوم ورموز مغايرة لما هو سائد، وصناعة شبكة تواصل موازية للرسمي، واهمال الشباب للنقد الموجه لهم ولرموزهم، فإنما يعنى أننا أمام حالة من «الرفض الكبير»؛ بحسب هربرتماركيوز. رفض لكل ما هو قديم والنزوع الحثيث إلى تشكيل زمن جديد...وهو نزوع يصعب الرجوع عنه خاصة مع تنامى الإصرار الشبابى على تجاوز كل ما هو قديم من: شخصيات ومؤسسات وسياسات وتوجهات، يراها الشباب مسئولة عن ما وصلنا إليه من أحوال لا تسرهم، وأن الواقع المجتمعى لم يعد قادرا على استيعابهم وتوفير ما يريدون، و،...،إلخ.

وما يفاقم الأمر، ويدفعه دفعا إلى تزايد المسافة بين الشباب وغيرهم. هو تشابك الحقائق الثلاث السابق ذكرها مع السياق الاقتصادى والاجتماعى الصعب...إنها لحظة تحول كبرى لا ينبغى أن نقلل منها. لذا ننبه إليها وندعو إلى فهم عمق ما يترتب عليها. من هنا تأتى أهمية سوسيولوجيا الشباب بشكل غير مدرسي...وتأتى الدراسة المقارنة مفيدة فى هذا المقام، ذلك لإدراك ملامح الزمن الجديد دون الحكم المسبق عليه وفق أحكام قيمية وأخلاقية، يراها الشباب تنتمى لزمن فات وولي...

ويحضرنى هنا كتاب صادر نهاية عام 2013عنوانه:»1963:سنة الثورة». حيث يعرض بمنهج: «التاريخ الشفوي»، كيف استطاع الشباب تغيير العالم بالموسيقى والفن والموضة. حيث التقى المؤلفان برموز هذه الثورة من مطربين وفنانين ليوثقوا ويفهموا طبيعة ما جري...ولعل الفكرة الأساسية المتضمنة فى شهادات رموز التغيير هي: «أنه متى هرمت المؤسسات فى أى مجتمع، يبحث الشباب عن البديل خاصة إذا ما واكب ذلك سياق اقتصادى/اجتماعى غير عادل». قد تبدأ الابداعات أقل من المستوى لكنها مؤشر لنهاية زمن وبداية آخر.

لذا ليس غريبا أن تتصدر فصول الكتاب مقاطع من أغانى أهم مطربى وفرق الغناء التى انطلقت مطلع الستينيات ولعل من أشهرها «البيتلز» و«الرولينجستونز»،...إلخ.. كذلك كتابات هذه المرحلة...ونقتطف هنا مقطعا من أحد أهم أغانى بداية حقبة الستينيات، ربما يوجز ما حاولنا أن نثيره فى هذا المقال ويفسر عنوانه:

«أولادكم وبناتكم صاروا خارج امرتكم وسيطرتكم... فطرقكم القديمة قد انتهت سريعا

من فضلكم ابتعدوا عن الطرق الجديدة... مادمتم لا تقدرون أن تمدوا أيديكم

لأزمنة جديدة قيد التغيير...ونتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern