شبابنا وشبابهم

تحدث معى صديقى مطولا حول ما تضمنه مقال الأسبوع الماضى «الشباب وثقافة الهواء الطلق». وأوجز ما قاله فى أننى أهتم كثيرا «بالمسألة الشبابية»، وأن الممارسات الشبابية من: تقليعات.

وسلوكيات، وردود أفعال مغايرة واحتجاجية، ولغة مختلفة يستخدمونها فى حياتهم اليومية...،إلخ، هى من الأمور الطبيعية التى تلازم هذه الفترة العمرية من حياة الإنسان. ومن ثم لا ينبغى المبالغة فى تقديرنا لها.

وحاول صديقى أن يثبت تصوره باستخدام منطق المقارنة تحت عنوان: «شبابنا وشبابهم»، وذلك من زاويتين. الأولي: المقارنة بين شباب جيل الكبار والشباب الحالي. والثانية: بين شبابنا المصرى والشباب فى نماذج مجتمعية أخري...وخلص صديقى إلى إدانة الشباب الحالى وأنهم ليسوا فى قامة جيلهم عندما كانوا شبابا، وأن شباب المجتمعات الأخرى أفضل بكثير من شبابنا.

بداية، وافقت صديقى من حيث المبدأ على ما هو مستقر من وجهة نظر البيولوجيا ـ وصحيح فى الوقت نفسه نسبيا ـ على طبيعة مرحلة الشباب من حيث محاولتها التمرد ورغبتها فى أن تكون مغايرة. إلا أن ما ينبغى الالتفات إليه،والاهتمام به هو أن الدراسات المتعلقة بالمسألة الشبابية لم تعد تتمحور حول «البيولوجيا» وطبيعة المرحلة العمرية وملامحها السيكولوجية فقط. إنما باتت تتجاوزها إلى ما يعرف «بالسياق المجتمعي» الذى يشكل فى النهاية «الحالة الشبابية» فى مجملها فى لحظة تاريخية معينة...ونحن إذا ما أردنا فهم المستقبل علينا أن نفهم الحالة الشبابية الراهنة بحسب السياق الذى تتخلق فيه. وعليه ستكون المقارنة بين الأجيال: شباب جيل الكبار وشباب اليوم، لا معنى لها، ولا بين الشباب فى المجتمعات المختلفة أى محل من الإعراب...لماذا؟...

لأن التباين فى السياق التاريخى بالنسبة للمرحلة الشبابية لجيل الكبار وبين شباب اليوم، سوف يشير إلى الاختلاف الجذرى بين الشباب فى الماضى وبين الشباب فى الحاضر. فكل منهما ينتمى إلى سياق مختلف وإلى عالم/دنيا/زمن مغاير، ومن ثم لا تصح المقارنة من الأساس. فزمن التواصل عبر الحمام الزاجل أو أو التيكرز أو التليكس أو الفاكس سوف يختلف كليا عن زمن وسائط الاتصال المتعددة والمتداخلة فى وسيلة واحدة. فالمعلومة التى كانت تحتاج إلى زمن لتنتشر عبر القارات باتت تنتقل لحظة حدوثها. من هنا نتج «التباين/الاختلاف» بين الأجيال...و»التماثل/التشابه» بين شبابنا وشباب المجتمعات الأخرى الذى جمع بينهم السياق الحضارى والتكنولوجى بالرغم من التنوع فى درجة التطور الاجتماعي، وطبيعة البنى الطبقية، ومدى التقدم فى المجمل...وهنا المفارقة المركبة...والتى يجب ادراك أبعادها حتى يمكن التعاطى مع المسألة الشبابية وفق معايير العصر لا بحسب الأحكام المسبقة والخبرات المستهلكة...كيف؟

لابد من ادراك أن شباب اليوم يختلفون جذريا عن شباب الماضي. فالحالة الشبابية الراهنة يحكمها سياق مجتمعى فى حالة حراك مستمرة، سواء بفعل التفاعلات الداخلية أو التغيرات الكونية المطردة. لذا فجيل الشباب الذى كان عبد الحليم حافظ هو مطربه المفضل لعقدين من الزمان ليس هو جيل الشباب الراهن الذى بات يبدل مطربه المفضل كل موسم. والشباب الذى قبل أن يسلم نفسه لآلة تنظيمية تشكل وعيه مثلما حدث فى زمن منظمة الشباب أو الجماعات الأيديولوجية، أصبح ينوع مصادر معرفته ويبدل ارتباطاته أو يجمع بينها فى اللحظة الزمنية الواحدة.

لذا فالزمن فى الماضى كان ممتدا وطويلا يعيشه الشباب وفق منطق الدورة الزمنية الممتدة والمرتبطة بالعمر. وبالعلاقة المنتظمة بين الأجيال، حيث تتعاقب الأجيال بعد كل دورة عمرية. وهو ما عبر عنه إحسان عبد القدوس فى قصة «سأترك بيتي»، بقوله على لسان شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة: «إن الانسان بعد سن الأربعين يصبح عالة على الدنيا...عالة على التقدم الذى ينشده الإنسان...إنه يفكر بعقلية الماضي... ماضيه...ويفكر كأن الدنيا قد وقفت نهائيا... وأن الطريق قد انتهي... وهو يريد أن تقف كل الأجيال التى تجيء بعده، فى نفس النقطة التى وقف عندها...وهويفعل ذلك بسلامة نية، لأنه هو نفسه يعتقد أن الطريق قد انتهي...وأن البشرية قد وصلت إلى حافة الأفق...».

بينما صار شباب اليوم يعيشون أزمنة متعددة فى وقت واحد. ولا يأبهون بتلك العلاقة النمطية بينهم وبين من سبقهم أو بين من يأتى بعدهم. الأكثر، كما كتبنا مرة، أنهم فكوا ارتباطهم بكل مؤسسات التنشئة التقليدية، ذلك لأن العصر بما يحمل من تقنيات تواصل قد أسهم فى أن يؤسسوا هم مؤسساتهم ويحددوا ارتباطاتهم ويغيرونها فى أى وقت لأنه لم يعد هناك علاقات أبدية أو ساكنة فعمدوا إلى «تحطيم الجدران» أو ما أطلقت عليه «ثقافة الهواء الطلق». وفى هذا يلتقى الشباب هنا فى واقعنا المحلى مع الشباب فى المجتمعات الأخري...وهو ما أثبتته دراسة فرنسية تناولت القواسم المشتركة والاختلافات بين: «الاحتجاجات الشبابية على ضفتى المتوسط». حيث خلصت إلى أن هناك ما يجمع شباب العصر مهما باعدت بينهم الحدود وإن اختلفت أسباب احتجاجاتهم...لذا لابد من الامتناع عن منطق التبسيط فى تناول المسألة الشبابية...ونتابع..


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern