يسارالثورة على "ربطة العنق"

"هدفنا هو خدمة الشعب اليونانى أولا...الذى سطر التاريخ"...

هذه العبارة هى المبدأ الحاكم لرؤية ألكسيس تسبيراس" زعيم حزب "سيريزا" اليونانى الذى فاز فى الانتخابات اليونانية الأخيرة،وعليه أصبح رئيسالوزراء اليونان...يعد هذا الحدث نقطة تحول هامة تاريخية على المستويين: الأوروبى والكوني. فما جرى فى اليونان أكثر من انتخابات محلية. لأن اليسار الصاعد الجديد نحو السلطة فى اليونان يحمل معه هو ورفقائه وحلفائه "مشروعا ثوريا" بحق لا يقف عند حد تغيير نمط الاقتصادالتاتشري/الريجانى السوقى فقط، وإنما لطبيعة الدولة ودورها وعلاقاتها بمواطنيها، وإلى تحول ديمقراطى أكثر تواصلا مع الجماهير... لذا يصف البعض هذا المشروع الثورى بأنه الأساس لانطلاق "ربيع أوروبي" طال انتظاره.

"ربيع اوروبي"؛لأن هناك من يرى أن الأوضاع فى أوروبا عل مدى العقدين الأخيرين ليست على ما يرام. وأن الضرورة باتت ملحة لمواجهة الكثير من الأزمات التى تتعرض لها أوروبا على مدى عقدين بالرغم من الاندماج الأوروبى الذى تحقق نهاية 2008..وأذكر فى هذا المقام الكتاب الشامل والتفصيلى الذى كان محل نقاش موسع مطلع العام الماضى للاقتصادى فيليب ليجرين: "الربيع الأوروبي"؛ والذى حاول فيه أن يجيب فيه على مدى صفحات الكتاب ـ التى تقارب ال500 صفحة ـ عن سؤال أساسى : "لماذا اقتصاداتنا وسياساتنا(الأوروبية) فى فوضى/Mess؟...حيث يتعرض فى لفتة ذكية إلى أنه بالرغم من اختلاف العملة بين كل من انجلترا ودول الاتحاد الأوروبي، إلا أن المشاكل الاقتصادية واحدة. ولماذا تتسع الفجوة بين الشرائح الاجتماعية فى داخل الدولة الواحدة وبين دول أوروبا الغنية فى الشمال والوسط وبين تلك التى فى الأطراف بالإضافة إلى القادمة الجديدة بعد تفكيك الدول التى كانت ترتبط بها. وعليه فإنه لامناص من تغيير النمط الاقتصادى السائد، وخاصة مع تسارع عدد الأزمات المالية العالمية التى بلغت أكثر من 150 أزمة فى العقود الثلاثة الماضية ولكن تم التغطية عليها بما يعرف "بالسيطرة الصامتة".لكن هذا لم يمنع أن هذه الأزمات قد تركت ندوبا صارخة فى الجسم الاجتماعى الكوني. ولم تكن أوروبا بعيدة عن تداعيات هذه الأزمات التى يُسببها الأثرياء ويدفع ثمنها الفقراء.

وعليه خلص الحوار المجتمعى الأوروبى إلى ضرورة إحداث تغيرات جذرية بنيوية فى النظام الاقتصادى السائد. ولن يحدث هذا إلا "بربيع أوروبي" يقوم على ثلاثة مقومات كما يلي: أولا،تهيئة الجميع لضرورة التغيير، بهدف تأمين مصالح الشرائح الوسطى والفقراء، وكبح جماح المضاربات العقارية التى أودت إلى كوارث مالية كونية، ووضع آليات التدخل اللازم من قبل الحكومات للحفاظ على حقوق المهمشين والطبقة الوسطى. ثانيا، اقتصاد لديه قدرات ديناميكية ابتكارية. ثالثا، محترم، نعم محترم، يقدر جميع المواطنين ويعمل على ضمان تحقيق العدالة للجميع وإتاحة فرص متكافئة لكل مكونات المجتمع على اختلافها.

فى هذا السياق، بزغ اليسار الجديد من اليونان، ولحقت بها إسبانيا ـ وأظن ـ أنه ستتوالى الدول تباعا(البرتغال وفرنسا،...إلخ). خاصة أن الأمر يتجاوز "تداول السلطة التقليدي" الذى شهدته أوروبا تاريخيا بين اليمين واليسار. فاليسار الصاعد الجديد يختلف عن اليسار القديم. فالأخير(القديم)ينتمى إلى ما يعرف بيسار الوسط أو الاشتراكيين الديمقراطيين أو الاشتراكيين الليبراليين الذين قبلوا بسياسات الليبرالية الجديدة الجامحة السوقية وإن ظلوا على يسارها ينتقدونها، إلا أنه نقد فى سياق القبول.

إنه يسار راديكالى يحاول أن يوسع من قاعدته الاجتماعية كى تشمل كل المتضررين من تداعيات اقتصاد السوق التى تحتكرها القلة وبخاصة: العمال، والموظفين العموميين، والمهنيين، والشباب، والفلاحين، والمهمشين بطبيعة الحال،...،إلخ، لمواجهة ما يلي: أولا: بارونات الرأسمال الخاص الذين يراكمون الثروة عبر المضاربات والاستثمارات الريعية. وثانيا: توفير قدر من الاستقلال الاقتصادى بعيدا عن "الوصفات والروشتات" اليمينية المعدة سلفا وبخاصة خطط التقشف "التجويعية" التى يتحملها الفقراء بالأساس. وثالثا: تنفيذ حزمة من الإجراءات الاقتصادية التى تحفز الاقتصاد الوطنى من جهة، شريطة الا يكون على حساب "الغلابة" من جهة أخرى.

ولا تقف رؤية اليسار الجديد على الجانب الاقتصادى وإنما تكملها رؤية لدور الدولة فى دعم الرعاية الاجتماعية بشكل أعقد من المعونات العينية والمالية إلى تمكين المواطنين فى إطار نموذج تنموى متكامل يتجاوز الحديث السطحى عن المشروعات الصغيرة وكأنها منبتة الصلة عن التصور الاقتصادى الشامل للتنمية. يضاف إلى ما سبق حرص اليسار الجديد على تطوير العملية الديمقراطية كى تقوم على الديمقراطية التشاركية من قبل الجميع وهو ما يتجاوز الديمقراطية التمثيلية التى يتحكم فيها أصحاب المصالح. خاصة مع إدراك رقى التجربة الديمقراطية الأوروبية وتميزها عن الامريكية التى تقوم وفق كتل تصويتية لا مصالح طبقية تتحكم فيها الاحتكارات الكبيرة.

إنها إرهاصة ربيع أوروبي، ولاشك. قوامها شباب واع لديه رؤية شاملة للمستقبل: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا... بل وثقافيا تجلى فى اصرار "تسييراس" أن يقسم اليمين على أسس مدنية لا دينية. كذلك تحرره من ربطة العنق بما يحمل ذلك من دلالة رمزية على أنه لا جديد يمكن أن يتحقق مالم يتم الخروج على كل ما هو قديم ثبت فشله فى ظل رؤية حاكمة للحركة... ونتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern