أمشير الأسود والدموى

يا موتانا، ذكراكم قوت القلب، فى أيام عزت فيها الأقوات،... على مدى الأزمنة والعصور، يحضر أمشير برياحه "الغبرة" الخانقة.

 ولكن الخبرة التاريخية منحتنا قدرة على مقاومة ما يحمل من "أثقال" رمادية تقتحمنا دون استئذان...وأن نتحمل حضوره الموسمى "الرزيل"، ذلك لأنه "عابر" ولا يمكن له أن يعطل دورة الحياة الكونية والمستقرة منذ الأزل...فأمشير لابد وأن يعقبه الربيع والإشراق والتفتح. نعم "فعله" مؤثر، بحسب الوصف الذى أبدعته الخبرة المصرية الشعبية التاريخية: "الاسم لطوبة والفعل لأمشير"؛ ولكنه فعل بلا ملامح، لا يترك أثرا أو يثير شيئا طيبا فى النفس...ويتم تناسيه فورا مع قدوم الربيع...

إلا أن هذه السنة قرر أمشير ألا يكون عابرا...جاء متشحا بالسواد ومتعطشا للدماء باسم الله، لتأسيس دورة زمنية مغايرة تنتمى لأزمنة ما قبل إنسانية. ووجد أمشير من يؤمن به، هؤلاء الذين ارتدوا السواد بالكامل وامتلكوا كل الأسلحة والأدوات التى تجعل أمشير نافذا وحاضرا، قسرا وبالقوة. فإما القبول بالدورة الزمنية الجديدة الساكنة "الأحادية الموسم"، ورمزها أمشير الأسود ـ الدموى أو يقوم جنوده بذبح من يعلن رفضه. أنه حكم نهائى ولا رجوع عنه ولا يحق التظلم أو الاعتراض عليه. وسوف يسرع هؤلاء الجنود بمطاردة "أبناء الربيع" وملاحقة كل من يتمسك بدورة الزمن الكونية الطبيعية التعددية الفصول" على الشواطئ وفى الشوارع والميادين أو فى القطارات والديار وغرف النوم، تنفيذا للحكم الذى أصدروه فى عدم وجود أدلة اثبات، وغيبة أى دفاع، ومنع إمكانية الاستئناف...فإما الانضمام إلى حكام وجنود أمشير أو الذبح ـ بقلب بارد وفى هدوء ـ ومن ثم ينطبق وصف إشعياء النبي: "كشاة تساق إلى الذبح...فى صمت"...

أنه زمن النحر والذبح خارج كل ما هو أخلاقى وإنسانى وديني...إنها عودة إلى ما قبل الإنسانية واللاتاريخ... إنها همجية حق التصرف فى الأرواح والممتلكات والأعراض بعيدا عن الشرائع والقوانين والمواثيق الدولية. والمروق على كل "المؤسسات الإنسانية" التى صنعها الإنسان لتنظيم العلاقات بين البشر فى حياتهم اليومية وفق الشرائع فى رحابتها والحقوق الإنسانية المتنوعة والمنطق والقوانين...إنها عودة "لطغيان البربرية على الانسانية"، وفق أفكار مجتزأة من سياقاتها، ومنحازة لمشروع ضيق/مغلق جدا. يعاد توظيفها لفرد أو أسرة أو دولة أو،...إلخ، بغية الإخضاع والإذلال والإتباع، وهى حالات تنسجم والطغيان واستباحة الوحشية ما يتعارض كليا مع الحرية و التنعم بالإنسانية...إنها حالة جسدها بحسب صلاح عبد الصبور فى مسرحية "مأساة الحلاج"، حيث شكل قضاء استثنائى لمحاكمة الحلاج: "الإنسان الفقير والزاهد والباحث عن الحقيقة والعلم والمعرفة ولقمة العيش الحلال والمدافع عن العدل والمناضل والطامح للتحرر من الخوف"...مجلس قضاء كان بحسب المسرحية: "مجلس حكم مخصوص، وله تقدير مخصوص، ينظر فى أمر مخصوص"...فكان: "الحكم المأساة"...

لقد شهد التاريخ عنفا شبيها ـ يعود إلى العصور الوسطى ـ وصفه المؤرخون بأنه: "مرضي"، مثل: "حرب السود" (حيث كان الجنود يتشحون بالسواد فى القرن الرابع عشر وغيرها الكثير والكثير...). أو ما يعرف بفترة "الطغاة المحليين"، حيث كانت بعض المجموعات تضع يدها على ما لا تملك فى مواجهة أصحاب الحقوق الأصلية. ويستخدمون كل أساليب العنف وأبشعها لفرض تصوراتهم الدينية الضيقة أو العمل لحساب من يدفع، أو لإبقاء مصالحهم دون أى تهديد،...،إلخ. ودوما هناك من/ما يبرر هذه الوحشية أو تلك البربرية...فمثلا هناك من قال: "أن القوة والعنف يمكن اعتبارهما ملحقين مساعدين للاستبداد السياسى أو/والديني" أو...

فى هذا السياق، قرر أتباع أمشير الأسود ـ الدموى معاداة الحياة والأحياء...وأن يدمروا إبداعات الله/ الجمال الكلى وابتكارات الإنسان فى كل موضع وموقع، والحيلولة دون قدوم الربيع...فإما الرضوخ لأمشير الأسود ـ الدموى أو الذبح جهارا نهارا لأفراد وجماعات...

هذه هى الرسالة التى جاءت من جنود أمشير الأسود ـ الدموى عبر شاطئ البحر الأبيض المتوسط...حيث تحول إلى "سديم صحراوى ما قبل تاريخي" يتسم : " بالذبح الإذلالي، والتهديدات السوداء،...ولكنهم لا يعرفون أن اختلاط دم المصريين بمياه البحر التاريخى قادرة على تجديد دوره التاريخى والحضارى واستنفار أهل الحوض على مقاومة التصحر والأحادية...كى يظل أمشير عابرا...إنه الحوض الذى انطلقت منه حضارات شتى نهل منها العالم: فكرا وفلسفة وهندسة وطبيعة وفلكا ولاهوتا وفقها وتاريخا ورياضة،...،إلخ. والذى لم يزل من ينتمون إليه على اختلاف ثقافاتهم وأحوالهم، والمطلون عليه من جميع جوانبه ـ يبدعون ويبتكرون ويطورون أوضاعهم ويثورون على واقعهم متى لزم الأمر...أى إنهم فى حالة حركة دائمة نحو ربيع يزهر أيامهم ويجملها بعديد الألوان...وستبقى ذكرى موتانا قوت القلوب...ونتابع...


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern