بعيدا عن الانطباعات، و«حواديت» النميمة السياسية، ومحاولات التقليل من شأن ما جرى فى مصر أو توظيفه...،إلخ. نقدم للقارئ أحد أهم الكتب التى تناولت «حراكات» الشعوب العربية أو «انتفاضاتها» بحسب التعبير الذى اعتمده مؤلف الكتاب.
إنه كتاب «الشعب يريد»، لجلبير الأشقر الذى صدر مطلع 2013(400صفحة، وكان قد انتهى منه فى أكتوبر من عام 2012). وجلبير أشقر باحث لبناني، يعمل استاذا لدراسات التنمية والعلاقات الدولية فى معهد الدراسات الشرقية والإفريقية فى جامعة لندن. وتأتى أهمية هذا الكتاب فى أنه اجتهد على أن يجيب إجابة مركبة وعميقة على ما وصفه «الموجة الثورية التى اجتاحت الفضاء الناطق باللغة العربية». وبحسب التقسيم الذى اجتهدنا فى عرضه ـ فى مقالنا السابقـ حول الكتابات الغربية التى تناولت 25 يناير. يمكن القول إن هذا الكتاب يندرج تحت النوع الثانى من هذه الكتابات ألا وهو: «الكتابات البحثية»؛ ما جعله مرجعا مركبا يستدعى التوقف عنده وفهم جوهر ما جرى فى العمق...
أولا: فى المقدمة، على صغرها، يشرح ـ المؤلف ـ بدقة، دلالة الصرخة الجماهيرية التى انطلقت فى كل مكان: «الشعب يريد». فيصفها بأنها تعبير عن بدء «اقتحام الإرادة الشعبية للساحة السياسية العربية». إنه «انتقال إلى دائرة الفعل الذى يعبر عنه التأكيد الجمعى فى صيغة المضارع بأن الشعب يريد». وحول هذا الأمر اجتهد المؤلف فى ضوء التاريخ واللغة أن يوصف ما سبق فى كلمة واحدة. ومال إلى تعبير «انتفاضة» الأكثر حيادية.
ذلك لأنه لم تحدث بعد تحولات جذرية. لكن هذا لا يمنع أن «اقتحام الجماهير للساحة السياسية على نحو غير مسبوق الحجم فى التاريخ بالغ الطول لبلاد الأهرامات»، يعنى «أن هذه الانتفاضة قد أطلقت، بلا أدنى شك، دينامية ثورية لا يزال الوقت مبكرا جدا للحكم على مآلها». خاصة أن هناك ثورات مضادة وانقلابات قد استطاعت أن تحدث تحولات جذرية فى حياة المواطنين ـ بالسلب أو بالإيجاب ـ ما يجعلها أن تستحق لقب ثورة.
ثانيا: عن تفسير ما جري، يشير المؤلف إلى «وجود أسباب أعمق من مجرد البعد السياسي». ومباشرة يقدم هذه الأسباب تحت عنوان كبير هو: «التنمية المعاقة». ويعتمد فى هذا المقام على أمرين: أولا: «التحليل الماركسي»، وثانيا: الاحصائيات المتنوعة أو التى يطلق عليها: «الوقائع». ينطلق المؤلف من مقولة ماركسية تقول: «عند مرحلة معينة من تطور أى مجتمع، تدخل قوى المجتمع الإنتاجية المادية فى تناقض مع علاقات الانتاج القائمة...وتتحول تلك العلاقات من أشكال تتطور القوى المنتجة من خلالها إلى قيود تعوق هذه القوي. وعندئذ تبدأ حقبة من الثورة الاجتماعية».بلغة أخرى هناك لحظة ما فى تاريخ المجتمعات يحدث أن تتعارض المصالح بين ما هو قائم وبين ما هو صاعد وبازغ. فإذا لم يستطع القديم أن يستوعب الجديد يبدأ التناقض والتناحر.وفى هذا المقام تحديدا يستعرض تجارب تاريخية أوروبية كلاسيكية، وحديثة كتلك التى جرت فى أوروبا الشرقية. ويخلص إلى انه أحيانا تكتمل الثورة ويحدث التحول الجذرى تاما. وأحيانا تحدث تغييرات فى المسارات أو التوجهات مع بقاء القديم مستمرا ولكن مع تيسير قدر من «البراح» أمام القوى البازغة. ولكن يبقى الصراع مفتوحا ولكن مقيدا وخاصة إذا ما كان الاقتصاد تابعا. وفى هذا المقام يستعين المؤلف بأدبيات حديثة فى تعميق اجتهاداته منها: أن التغيير قد يكون عملية :تحوير أو تصويب أو تقويم أو تعديل لما هو قائم من توجهات وسياسات اقتصادية دون المساس بالتوجه العام». ما يعنى تسكين الانتفاضة أو استيعابها ما يعوق التغيير الجذرى أو يؤخره،...إلخ.
وفى ملاحظة ذكية ولافتة يشير إلى نتائج كل من أزمتى الكساد الكبير والركود العام فى الثلاثينيات والسبعينيات على التوالي، حيث الأولى خرجت منها الحركة العمالية أقوي، بينما فى الثانية أضعف، وهذا يعود إلى موازين القوى الاجتماعية». ومدى وعيها التاريخى وإدراكها لمصالحها بدقة ومن هم خصومها وخبرتها السياسية وقدراتها التنظيمية،...،إلخ.
ذلك لأن العملية السياسية ليست معركة الجولة الواحدة...ويستشهد المؤلف بكثير من الاحصائيات ـ فى إطار مقارن مع مناطق جغرافية أخرى تؤكد كيف أن منطقتنا تشهد: «أزمة التنمية الأشد حدة».ويوجز نتيجة قراءة الأرقام المتنوعة فى ثلاث كلمات مفتاحية كما يلي: «الفقر، اللامساواة، اللا استقرار». ويأخذ المؤلف فى الاعتبار مؤشرين دالين عمليين لتأكيد أطروحته هما: نسبة البطالة (وبخاصة وسط الشباب)، ونسبة غير المشتركين بالنظم التأمينية المختلفة.
ثالثا: يخلص المؤلف مع نهاية الفصل الثالث إلى أن «تناقضات المجتمع القديم المستعصية الحل قد وضعت الثورة على جدول الأعمال منذ أمد بعيد. أما التقلبات الاقتصادية والديمجرافية المولدة للتوترات، والخارجة تماما، عن أى قدرة حكومية على الفعل، فقد خلقت حالة ثورية. فى مواجهة نظام كانت طبقته الحاكمة عاجزة عن الدفاع عنه، هبت الأغلبية الكاسحة من الأمة، بارتباك أو بوعي. وهكذا وصلنا إلى نقطة القطيعة، ولكن...ونتابع...