تهل فى هذا الشهر مئوية المثقف الموسوعى الكبير لويس عوض(1915 ـ 1990). وهو الذى لقب بالمعلم العاشر. وكأنه امتداد للمعلم الأول أرسطو والمعلم الثانى الفارابي. فهو يتميز مثلهما بالمعرفة الواسعة وحب الجديد وعشق تقديمه للآخرين...
عشقٌ دفعه الى أن يكتب عن نفسه فى «يوميات طالب بعثة ـ 1965»، ما نصه: «لوكنت كتبت للعبيد إنجيلا حروفه من نار، لوكنت بيرون كنت سلبت سيف العدل والجهاد ولا أغمده قبلما أرى بعينى عملاق الظلم مضرجا على سهول بريتوريا، لوكنت شيلى كنت غنيت مع الصبح، وملأت الآفاق بأناشيد الخلاص،...فأنا مهدور فى خدمة الأحرار»...لذا كانت قضية الحرية قضية محورية فى فكر لويس عوض، حيث وصفها «بمعشوقته الحمراء»...وهى بالجائزة التى تليق بمعشوقته الأصيلة السمراء :مصرب...فى هذا السياق كانت أعماله تصب من أجل تغيير الواقع، بالانحياز إلى قيم التقدم.
وفى هذا المقام أجاب لويس عوض بوضوح وحسم عندما سئل: «أين تكون من هذا الصراع القائم بين القديم والحديث؟...بأنا من أنصار الحديث وضد أنصار القديم. بل أكثر من هذا فحين تمر الأيام ويصبح الحديث قديما، والقديم شيئا مطويا سوف أكون بين أنصار الحديث القادم وضد هذا الحديث القائم الذى سيصبح قديما فى يوم من الأيام.. كنت وسأكون دائما مع الحديث الذى لا تزال له نضارته وما ذلك إلا لأنى حى والأحياء يحبون النضارة ولا يحلمون إلا بها كلما اقشعرت من حولهم الأرض واكلها شتاء الحياة...وعندى أن شيخوخة الفكر والقلب تبدأ حين يقل الفكر ويريد القلب أن يقول لصاحبه: إن الدنيا قد اعتلت بعد أن كانت صحيحة . لقد انهار الفن بعد أن كان مجيدا. وتدهور المجتمع بعد أن كان متماسكا، والأخلاق قد انحطت، والسياسة قد آلت إلى خراب اكيد، والذى تداعى من بعدك هو انت يا عقل. فالزم الصمت يا قلب واكتف بما كان يا عقل ولا تبذر بذور الموت فى حقل الحياة»...
تعكس هذه الكلمات المنهج الذى اتبعه على مدى حياته الممتدة. فظل يبدع حتى أيامه الأخيرة وفقا له.فلم يوقفه تعثر المشروع الليبرالى الوفدي. كما لم يفت فى عضده ما تعرض له من محن مثل فصله من الجامعة بسبب انحيازه للديمقراطية وقت أزمة 1954.كما لم تترك فى نفسه أزمة اعتقال اليساريين من 1959 إلى 1964 ـ بعد عام واحد من تعيينه مديرا عاما للثقافة ـ أى مرارة.كما لم يتأثر بإهمال السلطة الثقافية له باستبعاده من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب وفى كل محنة من هذه المحن وغيرها استطاع بمنهج «احب النضارة» أن يبدع وأن يصنع التطور...وذلك من خلال أعمال مرجعية من عينة: «تاريخ الفكر المصرى الحديث من عصر اسماعيل إلى ثورة 1919» ـ مجموعة أجزاء نشرت فى الثمانينيات. وتعد مرجعا لا غنى عنه حول هذه الفترة. و«أقنعة الناصرية السبعة» ـ 1976، وهو الكتاب الذى قرأناه شبابا فى ظل سياق من المعارك الحدية البسيطة والسطحية استدرجنا إليها. فجاء هذا الكتاب واضعا منهجا مركبا للتعاطى مع الزعيم الكاريزما وفترة حكمه بصورة مركبة متحررة من الأيديولوجيا الجافة والمباشرة. وقبل ذلك كانت أعماله الأولى: «فن الشعر»، و«برومثيوس طليقا»، دراسات فى النظم والمذاهب، «المؤثرات الأجنبية فى الأدب العربى الحديث حول قضية المرأة والفكر السياسى والاجتماعى». بالإضافة إلى مجموعة متنوعة من الترجمات المنتقاة بعناية مثل: «صورة دوريان جراى» لأوسكار وايلد، مجموعة أعمال لإسخيلوس،...هذا بالإضافة إلى مجموعة أعمال وثق فيها ما كان يعتبره مهمة مقدسة عليه أن يؤديها بكل تفان. فحرص منذ الستينيات على أن يقوم برحلة أوروبية يتابع من خلالها ما يدور فى العالم من تفاعلات ثقافية، وفاعليات فنية وأدبية. ثم يقوم بعرضها على القراء المصريين...وفى هذا المقام نرصد كتب: «الفنون والجنون فى أوروباب ـ 1969، ورحلة الشرق والغرب ـ 1972،وبأقنعة أوروبية» ـ 1986،...،إلخ.
بالإضافة إلى ما سبق نشير إلى أن لويس عوض قد أسهم اسهاما بالغا فى أربع مساحات إبداعية نوجزها فى الآتي: المساحة الأولى: دراسة التجارب الثورية العالمية ومعالجتها بمنهج غير نمطي. فى هذا السياق نذكر: «ثورة الفكر فى عصر النهضة الأوروبية» ـ 1987، «الثورة الفرنسية» ـ 1989.المساحة الثانية: حرصه أن يخوض القضايا الفكرية مسلحا بالتأصيل النظرى والمعرفى الذى ينم عن ثقافة موسوعية كبيرة،وهنا نلفت النظر إلى قضايا: الهوية التى أثيرت مطلع السبعينيات، والاشتراكية والأدب، والثورة والفن،...إلخ. أما المساحة الثالثة: فهى أعماله الإبداعية فى مجالات الشعر(ديوان بلوتولاند والذى يعتبره البعض باكورة الشعر الحديث)والمسرح(مسرحيتا الراهب والتى تعكس وعيا لمصر القبطية، ومحاكمة ايزيس)،والرواية(العنقاء) والسيرة الذاتية (مذكرات طالب بعثة التى كتبها باللغة العامية وأوراق العمر). المساحة الرابعة: عمله العمدة مجلد فقه اللغة العربية.
لويس عوض...المعلم العاشر...المثقف الموسوعي: مشروع فكرى مركب وكبير يحتاج إلى دراسة واستعادة وخاصة أن هناك كثيرا من الأجوبة سوف نجدها فى متن هذا المشروع لأسئلة آنية محيرة...ونتابع...