المتابع لعملية التحول الديمقراطي، الذى بدأ إثرانطلاق «حراك 25 يناير»، يمكنه أن يصفه «بالمتأرجح». فتارة يتقدم وتارة يتراجع. وتارة يتصاعد وتارة يخفت بل يبدو ساكنا. الأهم هو ردة فعل المواطنين الذين تتراوح مشاعرهم بين الأمل فى مستقبل أفضل، بفعل التحول، والألم من تعثر عملية التحول. لماذا ؟
يعود ذلك لعدة أسباب نرصدها كما يلي: السبب الأول، هو أن هناك من لم يزل يظن أن عملية الحراك هى عملية «ميكانيكية» لها بداية ونهاية، وأن هناك «زرا» يمكن الضغط عليه يقوم بضبط أو تثبيت اللقطة الحراكية، كما هو الحال فى ميكانيكا الأجهزة المرئية. الأكثر، فى هذا المقام، من ظن أنه قادر على وصل ما انقطع، ذلك بإعادة اللقطة ما قبل الحراكية إلى الواقع، وكأن الاحتجاجات لم تكن، والتظاهرات لم تنطلق، والحشود لم تتواصل فى مواجهة الاستبداد السياسى والدينى ورفض المنظومة الاقتصادية الحاكمة لهذين الاستبدادين، والتى أدت إلى واقع يتسم بأرقام اقتصادية كارثية، كما أعلنها المشير بشفافية.
السبب الثاني، هو تصور البعض أن التحول الديمقراطى هو مجرد خارطة طريق تتكون من محطات متعاقبة أو متزامنة أو...الخ. أو اختزال البعض للتحول فى «الصندوقية» (نسبة إلى صندوق الانتخابات) باعتبارها وحدها مانحة الشرعية والحاكمة للمسار. لم يفهم البعض أن إجراء الانتخابات فى مراحل التحول هو لتنظيم عملية التحول من خلال فائز انتخابى دون أن يتم إقصاء من هزم، ذلك أن الجميع، قد ناضلوا دون تمييز، من خلال الحراك لإطلاق عملية التحول. وعليه لابد من إيجاد صيغ «شراكية» لتجديد وتحديث وتغيير أبنية الاستبداد وتيسير تحقيق الدولة الديمقراطية. حيث ان طبيعة مراحل التحول أكبر من ان يحملها طرف بعينه كما هو الحال فى المراحل الطبيعية والمستقرة. ومن يقرأ مثلا تجربة التحول فى إسبانيا (وقد درسناها بعناية وسمعنا شهادات حية حولها)، سوف يجد كيف تكاتفت الأحزاب التقليدية والصاعدة مع الملكية الآتية من التاريخ والكنيسة الكاثوليكية كعنصر فاعل فى المعادلة السياسية بالإضافة للكتلة القومية، لتيسير عملية التحول الديمقراطى عقب سقوط فرانكو قبل منتصف السبعينيات.
السبب الثالث، هو عدم قدرة السلطات المنتخبة والمعينة المتعاقبة منذ 25 يناير إلى وقتنا هذا، أن تعبر عن تطلعات المواطنين الذين عبروا عنها من خلال دورات احتجاجية متتالية متنوعة منذ عقد من الزمان. وعدم انقطاعها، بل تداخلها مع عملية التحول بدوراته الانتقالية بشكل مركب، وأظنه غير مسبوق. ولم يختلف سلوك أى تيار وصل إلى السلطة، فالكل أعطى الأولوية لتمرير تشريعات وقوانين «الضبط والربط» على حساب ما من شأنه أن يؤمن ويحقق العدالة بأبعادها للجميع، وخاصة أن الخبرة التاريخية، الوطنية والعالمية، تقول إنه لا تقدم بغير عدل، وأن الأمن أحد عناصر منظومة التقدم. وبلغة أدبيات الحداثة فى وصفها لأبعاد الدولة الحديثة نشير إلى أن الأمن يكون موجها لضبط عنف أو إرهاب أى فرد أو جماعة تهدد الدولة الحديثة فقط ومشروع التقدم، أى أن الأمن يحتاج إلى قدر من تحقيق المساواة وبخاصة بين المستضعفين والمهمشين والذين يمارس ضدهم أى تمييز من أى نوع.
السبب الرابع، أنه بدلا من إعادة هيكلة المؤسسات، وبلورة أخرى جديدة تواكب المستجدات، وتحديث الخطاب السياسى ومفرداته لتناسب زمن التحول وتستعد لما بعده. وجدنا أنفسنا نستعيد مقولات ومواقف وممارسات وآليات قديمة، ذلك تحت ذريعة الحفاظ على الدولة من الانهيار، وضرورة العمل لدفع عجلة الإنتاج والاستقرار من أجل الاستثمار. وعليه يتم تجاهل المسألة الاقتصادية الاجتماعية المتنامية، أو محاولة ممارسة عمليات تسكينية. ويصر المسئولون على الشعارات سابقة الذكر وكأن البيئة الانتاجية لم تصب بعطب جوهرى منذ صفينا الصناعات الكبرى المهمة وشجعنا العمالة الماهرة على أن تتحول إلى باعة سجائر، وهم فى منتصف العمر، أخذا فى الاعتبار أن كلا من الانتعاش المالى ونسبة النمو التى لم تكن توزع بشكل عادل، كانا يعطيان حالة من الاستقرار الزائف.
السبب الخامس، وهو انتشار خطاب من أطراف متعددة يلمح إلى كيف أن ما جرى قد أوصلنا إلى ما نحن عليه من فوضى وترد. وهو أمر يجافى الحقيقة جملة وتفصيلا. فما جرى فى 25 يناير من حراك و30 يونيو من تمرد هو نتاج حالة انسداد وجمود وركود عرفتهما مصر على مدى عقود. وعليه تجدد الحديث حول حصار المجتمع المدنى تحت عناوين عدة أو تشويه الشباب بلغة تتحدث عنهم بأنهم شوية عيال»، أو ..الخ، إنما يعنى اننا لم ندرك حجم التحولات الكبرى التى جرت فى مصر، وإن الزمان لن يعود إلى الوراء، لأسباب كثيرة منها أننا أمام ديناميكية مجتمعية تحاول أن تعبر عن نفسها.
الخلاصة، يجب العمل على التعاطى مع هذه الأسباب بجدية، وجعل تطلعات المواطنين حقيقة، وإتاحة الفرصة أمام المواطنين أن يشاركوا بناء مصر الجديدة وأن يحصدوا بعدل ومساواة ثمار البناء الجديد، فلا يحتكرها البعض على حساب الأغلبية.. ونواصل..