الشىء الذى لا يعود إلى أصله أبداً!

(1)

هناك حزمة مفردات ومصطلحات يتم تداولها فى كل مجال من مجالات العمل. تكاد ترقى هذه الحزمة إلى أن تكون «لغة» خاصة لا يعرفها إلا المنخرطون فيها. ففى كل مهنة هناك لغة تميز التواصل بين من يمارسها. بداية من توصيف الأعمال المختلفة، وأسماء العدد المستخدمة، إلى الخامات المستخدمة،…، إلخ. وعندما عملت بالمحليات (أغسطس 2011) لم أكن أتوقع أن قطاعا إداريا من قطاعات الجهاز الإدارى تكون له لغته الخاصة والمغلقة التى لا يعرفها إلا أصحابها.. وإذا كانت بعض المفردات فى كثير من المجالات يمكن معرفتها لأن أربابها يستخدمونها، فإن كثيرا من المفردات التى يتم استخدامها فى المحليات لا يعرفها الجمهور لأنها تعد لغة خاصة يتم تداولها داخل المغارة الإدارية. ولا يمكن معرفتها ما لم تدخل هذه المغارة.

(2)

من مفردات هذه اللغة والأكثر شيوعا: «عودة الشىء لأصله». ويقصد بها أنه إذا ما تم حفر فى إحدى الطرقات أو تصليح مرفق من المرافق (الكهرباء، المياه، الصرف الصحى) واحتاج الأمر إلى تكسير ما فى بناية من البنايات، أو تمهيد الطرق (السفلتة)، ومن ثم ترك «ردش» أو بقايا الحفر والتكسير فى موقع العمل. فإنه يتعين على إدارة الحى أن تعمل على «إعادة كل شىء إلى أصله» قبل الحفر أو الإصلاح،…، إلخ. ولتنفيذ عملية «إعادة الشيء لأصله»، تخصص ميزانية تمكن الحى من تنفيذها من أجل راحة المواطنين. ورغم بساطة الأمر ومنطقيته وضرورته، إلا أنه من أكثر الإجراءات تعقيدا فى المحليات. حيث الحفر هو حدث يومى متكرر. وعمليات «إعادة الشيء إلى أصله» عملية مستمرة ومتكررة. ولكن لا شىء يعود إلى أصله قط.

(3)

والمفارقة، أن عملية إعادة الشيء إلى أصله «من أكثر العمليات التى يدور حولها الحديث ويتم جدولتها والعمل على إنجازها حتى وإن كان البند المالى المخصص لها قد نفد. ذلك لأنها عنوان الحى «الحى» أو الحى «الميت». أو بلغة أخرى فإن آثار الحفر والتكسير يمكن أن يلاحظها المواطن بسهولة، كما يمكن أن يرصد بيسر مدى الإتقان فى إعادة الشيء إلى أصله من عدمه. وعليه فعلى الحى ورئاسته التصرف بأى طريقة. وبالفعل يتحرك المعنيون نحو إعادة الشىء إلى أصله ولكنه لا يعود فى حقيقة الأمر. أى، وبلغة أكثر تحديدا: «يعود ولا يعود»… فلا شك أن هناك فريق عمل قد توجه لإنجاز المطلوب. إلا أنه لم ينجزه طبقا للمعايير المتعارف عليها، لسبب أو لآخر.

(4)

وما يفاقم من الأمر، هو تعاقب أعمال الحفر والإصلاح فى موقع بعينه دون تنسيق. فما إن تنتهى جهة من مهمتها ويتم «إعادة الشيء لأصله» ـ تجاوزا، حتى تبدأ جهة أخرى مهمتها. وما إن تنتهى منها، يبدأ العمل ـ مرة أخرى ـ فى إعادة الشيء لأصله. وهكذا… والمحصلة هى أن «اللى بينكسر ما بيتصلحش… وإذا اتصلح ما بيرجعش كما كان أو لأصله»… ولكن الحياة تستمر. ويتعايش المواطنون مع الواقع الذى يقترب من العبث.

(5)

وأمام العبث الميدانى الممتد، تبرز عدة تساؤلات بسيطة: ألا يوجد تنسيق بين الجهات المتعددة؟ لماذا لا يعود الشيء لأصله بالفعل؟ لماذا لا يكون هناك فريق مؤهل لإعادة الشيء لأصله بالفعل؟… هذه الأسئلة وغيرها، قتلت بحثا. وعلى الرغم من وجود اجتماع دورى تلتئم فيه كل الجهات شهريا إلا أنه يبتعد عن الإجابة عن الأسئلة الضرورية إلى موضوعات يتم تأجيل البت فيها من اجتماع إلى آخر. فمهما حاول المسؤول أن يضغط فى اتجاه وجود خطط مسبقة لأعمال الحفر والصيانة يتم فى ضوئها التنسيق بين الجهات خلال فترة زمنية معينة، بما يضمن أن تتم أعمال الحفر أو الصيانة فى وقت واحد أو متعاقب، معروف سلفا. ومن ثم تأتى عملية إعادة الشيء إلى أصله فى الوقت المناسب وبالإتقان المطلوب. مهما حاول المسؤول ذلك، فإن هناك الكثير من المبررات والتصرفات التى تحول دون ذلك. حيث يطرح البعض سؤالا تعجيزيا: ماذا عن الأعطال المفاجئة؟ أو عن ظروف خارج إرادة الإدارة مثل الأمطار أو الحرائق؟.. ويحاول المسؤول جاهدا أن يميز بين المخطط له وبين الطارئ. وإن الإدارة الحديثة المنفتحة وليس المتوارية فى المغارة، قادرة على وضع خطة شاملة مستقبلية تدخل فى حساباتها الطارئ والمفاجئ… ومع التسويف، لا يكون أمام المسؤول إلا أن يلجأ إلى الزيارات الميدانية وبحسب ما يكتشف من مواقع لم يعد فيها الشىء إلى أصله يعطى توجيهاته بإعادتها إلى الأصل… وهو أمر على

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern