أهم أفكار 2015.. الواقعية الهجومية «٢»

(1)

منذ تعرض العالم للأزمة المالية الأخطر تاريخيا فى سنة 2008، دخل العالم فى ما يعرف فى الأدبيات العالمية إلى«المنعطف الكبير»؛ بحسب برتران بادى أحد علماء السياسة الفرنسيين. وكان من أهم التداعيات السياسية لهذه الأزمة أن الولايات المتحدة الأمريكية التى خرجت منتصرة من الحرب الباردة وأعدت نفسها لتكون الإمبراطورية الحاكمة للعالم أو القوة العظمى الوحيدة، أدركت أنها لا تستطيع أن تستمر بنفس السلوك الإمبراطورى. خاصة مع الصعود الصينى اللافت. فكانت قيادة أوباما لأمريكا التى مارس فيها نوعا من «القيادة الناعمة» كبديل للقيادة الإمبراطورية،

منفتحا على قوى شاردة تاريخيا مثل كوبا وفنزويلا، وبالطبع الصين، هى السبيل لمواجهة الأزمات المنتشرة فى كل ربوع العالم. وكان مفتاحا المرحلة الجديدة هو «الضغط على زر إعادة التشغيل للعلاقات الأمريكية الروسية الأمريكية الصينية»، بحسب محللين معتبرين، وضمنا «إعادة ابتكار جديدة للغرب».

(2)

فى هذا السياق تحديدا، تجمع الكتب الصادرة فى العامين الأخيرين على أن الحرب الباردة قد انتهت. ونحن أمام وضع كونى مختلف فى طبيعته كليا. وحول هذه الفكرة كنا قدمنا فى 2014 لكتابى بريجنسكى «الرؤية الاستراتيجية»، وشارلز كراوتامر «الحرب الهادئة». وفى نفس هذا الاتجاه استمر العقل الغربى يراكم أفكاره فى 2015، من خلال مجلدين هامين: الأول «نهاية الحرب الباردة:1985 – 1991» لروبرت سرفيس (زميل الأكاديمية البريطانية وكلية سانت أنطونى بأكسفورد والمتخصص فى العلاقات الدولية والشأن الروسى)، والثانى «تراجيديا سياسات القوى العظمى»، لجون ميرشايمر (البروفيسور فى العلوم السياسية فى جامعة شيكاغو). حيث صدر الأول هذا العام، بمناسبة مرور 70 سنة على نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة. كذلك مرور 30 سنة على تولى جورباتشوف منصب السكرتير العام للحزب السوفيتى وبدء التوافقات التى تمت بينه وبين ريجان لإنهاء الحرب الباردة. وعلى مدى 700 صفحة تقريبا يروى الباحث بدقة طبيعة الحرب الباردة وتاريخها والكيفية التى انتهت بها. بينما الكتاب الثانى وعلى الرغم من أنه صدر فى 2003، إلا أنه قد أعيد طبعه فى 2014 و2015 على التوالى لأهميته القصوى كمرجع معتبر للعلاقات الدولية.

(3)

وتتفق كل هذه الكتب على مجموعة من الأفكار الهامة؛ أولا: أن الحرب الباردة التى كان يقودها «قطبان أيديولوجيان» عملا على تجميد الصراعات، قد انتهت. وأن أزمة 2008 المالية الكارثية قد وأدت فكرة أمريكا الإمبراطورية أو القطب الواحد. وأنه عليها التعامل مع الأقطاب الصاعدة مثل: الصين، والهند، وروسيا،…،إلخ، وهو ما نبه إليه ميرشايمر مبكرا، والاعتراف بأن هناك حقيقة جغرافية ـ سياسية جديدة قد تبلورت، نوجزها فى الآتى: «إننا أمام انتقال حقيقى لمركز ثقل القوى الكونية وللديناميكية الاقتصادية»، ..انتقال «من الغرب إلى الشرق ومن الأطلنطى إلى الباسيفيك»…ما يعنى أننا أما مسرح عالمى جديد «متعدد الأقطاب». عليه أن يتعايش مع بعضه البعض وأن ينسق فيما بينه إدارة الصراعات فى المناطق الحيوية فى العالم. ثانيا: القبول بالصراعات ـ لا تجميدها ـ انطلاقا من مبدأ «الواقعية الهجومية». أى التعامل مع الواقع دون تجميل. وعليه فإن ما يجرى اليوم فى العالم الراهن هو إعادة تأسيس «لتوازن جغرافى ـ سياسى جديد»، ما يعنى القبول بالحروب. وسيبقى الأمر قيد التشكل حتى العام 2025. ثالثا: الإقرار بأن النظام الدولى الراهن يمر بمرحلة جديدة تتيح «الشراكة بين الأقوياء ولكن لا تمنع التنافس بينهما فى نفس الوقت»؛ وهى المرحلة التى بات يطلق عليها «مرحلة الحرب الهادئة» Cool War؛ حيث تتراوح حركة الدول بين: «التعاون الاقتصادى الشامل، والتنافس الحاد فى مجال الجغرافيا السياسية».. أى ستسود علاقات دولية غاية فى التعقيد والتناقض فى آن واحد.. علاقة معقدة لأنها تقوم على التناقض بامتياز. علاقة يمكن أن نطلق عليها: «التعاون التنافسى أو الصراع التشاركى».

(4)

فى هذا السياق، يجب ملاحظة أن هيكلية البنية الدولية قد تم قبول التنوع فيها. فزمن اختزال العالم ـ وقت الحرب الباردة ـ إلى قطب غربى/رأسمالى، وقطب شرقى/اشتراكى، قد انتهى. فالعالم بات يتدرج من قمة ثنائية متعددة: أمريكا ـ الصين، أمريكا ـ روسيا، وأمريكا ـ الاتحاد الأوروبى، إلى مجموعة الثمانية G8 (أوG7)، إلى مجموعة العشرين، إلى مجموعة التحالفات الاقتصادية البازغة مثل: BRICS، ومجموعة شنغهاى،…،إلخ. والمراجع لحالة السودان والصراع المبكر بين أمريكا والصين حولها، كذلك إدارة الصراع والتفاوض مع إيران، وسوريا، وأوكرانيا، وبحر الصين الشمالى، وإفريقيا، واليمن…،إلخ- فإنه سوف يجد تراوحا فى المواقف بين القوى والدول المختلفة تجاه الملف الواحد. فنجدها تارة متعاونة، وتارة متنافسة، وتارة متصارعة، وهكذا. فلا مجال للحديث عن ضعف إدارة أوباما أو تورط بوتين أو شيخوخة أوروبا، حيث الأمر بات أكثر تعقيدا من ذلك.

(5)

من هنا تأتى أهمية أفكار 2015 لأنها تعبر عن تحولات كونية كبرى. لا يجوز وفقها أن يصر البعض على أننا لم نزل نعيش أجواء الحرب الباردة. أو يكرر آخر أننا نعيش زمن القوة الأمريكية المنفردة. لأن هذا غير صحيح.. ومن ثم علينا أن نطرح على أنفسنا أين نحن من ذلك؟.. ونواصل.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern