(1)
انطلقنا من اختيارنا عرض مجلدى الأستاذ عبدالغفار شكر المعتبرين عن: «منظمة الشباب» و«التنظيم الطليعى»، (أصدرهما مركز دراسات الوحدة العربية)- من قناعة مُختبرة تقول إن أساس التقدم هو التراكم ولا يمكن أن يتم التراكم ما لم تكن لنا ذاكرة حية. والذاكرة كى تكون حية لابد من أن تكون حاضرة. وبالفعل فلقد حفظ لنا أستاذ عبدالغفار شكر بهذين المجلدين المعتبرين ذاكرتنا الوطنية لـ«منظمة» و«تنظيم» تاريخيين من إبداعات المرحلة الناصرية.. ليس بهدف استنساخهما وإنما من أجل إدراك الدروس المستفادة.
(2)
ذلك لأننا فى لحظة تحول مصيرية تبحث فيها مصر عن نفسها على جميع الأصعدة. وفى هذا تتنازعها الكثير من الخيارات. من هنا فإن فهم خبرات الماضى ـ ولا أقول استعادته ـ تفيد فى كيفية أن نختار ما يواكب التقدم إلى المستقبل. فمع الفراغ السياسى الحاصل لأول مرة منذ 1952 لا يوجد حزب حاكم، كما لا توجد مؤسسات جامعة كالتى أسستها ثورة/ دولة يوليو. ومن ثم يقترح البعض استعادة تجارب الماضى. فى هذا السياق، عرضنا فى الأسبوع الماضى للدراسة التوثيقية الأولى التى قدمها الأستاذ عبدالغفار شكر لأهم كيان شبابى تثقيفى سياسى عرفته مصر والمنطقة: «منظمة الشباب». حيث خلص الأستاذ عبدالغفار شكر ـ وكما أشرنا فى الأسبوع الماضى ـ إلى أن: تجربة توليد كيانات تنظيمية تخرج من رحم السلطة «لا يمكن تكرارها أو استعادتها، فقد كانت نتاجا لعصرها، ولظروف مصر فى الستينيات من القرن العشرين، ولكنها قابلة للاستفادة منها…».
(3)
فى هذا الأسبوع نقدم الدراسة التوثيقية الثانية حول محاولة عبدالناصر بناء كيان مؤسسى سياسى للدفاع عن يوليو الثورة/ الدولة، أو ما يعرف بـ «الطليعة العربية»؛ أو التنظيم القومى السرى لجمال عبدالناصر (1965 ـ 1986).. وهو التنظيم الذى أطلقه ناصر فى نوفمبر 1965 ـ أى منذ 50 عاما بالتمام والكمال ـ بهدف تنظيم القواعد الشعبية العربية، وتكوين قيادات ملتزمة قادرة على تحريك جماهير الشعب العربى ليتصدى للتحديات الداخلية والخارجية المناوئة للثورة العربية. لقد اعتمدت «الطليعة العربية صيغة تنظيمية فريدة، فقد كانت سرية الحركة، وسرية التنظيم، وسرية الأعضاء». انطلقت من مصر إلى الوطن العربى كون التنظيم قوميا عروبيا. واتخذت «الطليعة العربية فى كل قطر عربى غطاءً علنيا لنشاطها: حزبا سياسيا أو حركة شعبية أو منظمة جماهيرية». لقد خرج التنظيم من عباءة النظام الناصرى ولكنه كان سريا لحماية الثورة والدفاع عنها وقت اللزوم. لذا عندما كان يعتقل المنتمون للتنظيم «لم يتهموا أبدا بالانتماء إلى تنظيم الطليعة العربية»، ما حماه وأطال من عمره حتى ما بعد منتصف الثمانينيات (على مدى ما يقرب من ربع قرن) وسمح بتجديد القيادات الناصرية.
(4)
يتتبع الأستاذ عبدالغفار مسيرة التنظيم من خلال سبعة فصول (600 صفحة)، كما يلى: يرسم فى الفصل الأول الإطار السياسى المصرى والإقليمى والدولى للنصف الأول من ستينيات القرن العشرين: الطريق إلى الطليعة العربية (1961 ـ 1965). كما يؤرخ لمقدمات تأسيس التنظيم من خلال التنظيمات التى سبقته على الترتيب: الاتحاد الاشتراكى العربى، طليعة الاشتراكيين، ومنظمة الشباب الاشتراكى. ويشرح فى الفصل الثانى: المقومات الأساسية للتنظيم من حيث: طبيعته، ومبادئه، ومكوناته، والقواعد التى تحكمه. ويقدم فى الفصل الثالث: المرجعية الفكرية الحاكمة وفق وثائق ثورة يوليو والميثاق. ويفسر فى الفصل الرابع كيفية: التكوين النضالى للأعضاء من حيث: التدريب، وماهية القضايا الفلسفية والتنظيمية والنشاطات المتنوعة للتنظيم. وركز فى الفصل الخامس على: البناء التنظيمى للطليعة العربية. وعرض فى الفصل السادس: المعارك والنضالات التى خاضها التنظيم. وأخيرا رصد فى الفصل السابع: حصاد التنظيم. ويرفق المؤلف دراسته بـ13 وثيقة تعكس كيف كانت النخبة السياسية تفكر وتتحرك.
(5)
ولعل من أهم ما عرض له الأستاذ عبدالغفار شكر هو السياق التاريخى الذى كانت تواكبه حركة التنظيم، من خلال محاولة رسم خرائط اجتماعية لبنية المجتمع المصرى، وكيفية التحرك المجتمعى، ومكانة المشروع التنموى المصرى الذى عبرت عنه الخطة الخمسية الأولى. وفى نفس اللحظة كان على مصر مواجهة القوى المختلفة، والصراعات الإقليمية والدولية. أو ما عبر عنه المؤلف: «اشتداد الصراع الطبقى داخل مصر، والصراع الدولى حول مصر على امتداد الوطن العربى كله». ما استدعى أن تبلور يوليو الثورة/ الدولة كيانا تنظيميا يكون قادرا على صد الأخطار وحماية المنجزات التى عنيت بها يوليو، لتحقق ما أعلنته من مبادئ، وخاصة الثلاثة الأولى منها: القضاء على الاستعمار وأعوانه، القضاء على الإقطاع، والقضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم.. وهى التى انشغلت بها ولم تتمكن من استكمال باقى مبادئها، فما كان أمام الثورة/ الدولة إلا أن تؤسس تنظيمها خارج الجهاز البيروقراطى وكثير من القوى الاجتماعية. إلا أن التحولات المضادة تغلبت. إن المجلدين يستحقان القراءة، إنهما جزء من ذاكرة مصر السياسية، فبهما الكثير من التفاصيل والدروس المستفادة.. وأرجو أن أكون قد أثرت شهية القارئ فى الانكباب عليهما. تحية كبيرة لأستاذ عبدالغفار شكر. ونواصل…