(1)
قبل أن تحتار عزيزى القارئ، حول الاسم المذكور فى العنوان، نقول «آنجَسديتون» هو عالم الاقتصاد البريطانى، الذى نال نوبل للاقتصاد عن عام 2015. نذكره لكم أصدقائى القراء لأنى انتظرت على مدى أسبوعين، أى منذ إعلان حصوله على الجائزة أن نهتم بتقديم جانب من علم الرجل إعلاميا وأكاديميا وسياسيا. ولكن كان كل نصيب الرجل بما أنجز من إضافات للعلم والإنسانية هو مجرد خبر منقول ومترجم، ويكاد يكون هو هو، عن وكالات الأنباء، ونصه الآتى: أعلنت لجنة نوبل للآداب (أمس، أى منتصف أكتوبر الماضى) عن «حصول أنجوس دايتون الأكاديمى البريطانى على نوبل للاقتصاد، لأنه قدم تحليلات معمقة فى الاستهلاك والفقر والرفاهية»، مشيرةً إلى أن إعداد سياسات اقتصادية تشجع على الرفاهية وتقلص الفقر يتطلب أولاً فهم خيارات المستهلك الفردية. وديتون هو الشخص الذى أدخل أكبر قدر من التحسينات على هذا المفهوم…
(2)
تكرر هذا النص، دون تغيير، فى أغلب المطبوعات والمواقع الإلكترونية دون إضافة أو حذف إلا فيما ندر. وكنت أتصور أن العبارة المتُسربة التى تضمنها الخبر والتى تذكر الموضوعات التى عُنى بها ديتون فى أبحاثه: «الاستهلاك والفقر والرفاهية»، جديرة بالاهتمام خاصة أنه ترجم ما خلص إليه فى سياسات مقترحة هدفها «تقليص الفقر». إلا أنه وبعد أسبوعين لم يزِد الخبر عن كونه خبرا. فلا الإعلام قدم لنا المزيد عن علم الرجل. ولا قال لنا أحد إن هناك جامعة أو جهة ما ـ لن أقول دعوة الشخص والتعرف على ما قدمه ـ ولكن الاطلاع عبر الإنترنت على حصيلة اجتهاداته العلمية خاصة أنها تمس قضايا نظرية وعملية نواجهها بصورة مباشرة.
(3)
على النقيض تماما، نجد الإعلام العالمى، وقد حاول أن يقدم كل كبيرة وصغيرة عن الأكاديمى البالغ من العمر 69 عاما. مؤلفاته وأبحاثه ومساهماته النظرية والعملية فى مجال السياسات الاقتصادية.. والمراجعة الأولية للقضايا التى تناولها سوف تثير القراء ـ كما شوقتنى ـ أن أعرف رأيه فيها وهل هى صالحة للتطبيق عندنا أم لا وما البدائل الممكنة؟.. أى أنها مثيرة للتعرف، كما أنها مثيرة أن تفتح لنا آفاقا فى التفكير نحو حلول للإشكاليات ثقيلة تواجهنا على مدى عقود..
(4)
من هذه القضايا التى تناولها «آنجَسديتون» فى أبحاثه وحاول أن يقدم لها حلولا عملية، نشير إلى ما يلى: أولا: فى مجال اللامساواة.. حاول أن يعالج قضية اللامساواة فى مجالات تطبيقية مثل الرعاية الصحية، والخدمات المحروم منها المواطنون، وكيفية تقديم الرعاية الصحية فى أماكن محرومة منها والتطبيق على مناطق محددة،…إلخ. ثانيا: فى مجال الفقر: نجده درس قضية الفقر فى بلدان العالم بشكل عام، وفى بلدان بعينها مثل الهند. ومدى إمكانية إسقاط الفقر. وكيف يمكن مراقبة إلى أى حد سوف تتمكن أهداف الألفية الجديدة التنموية التى تم التوافق عليها كونيا من الحد من الفقر. كما انتقد أساليب قياس الفقر السائدة وحاول أن يبتكر مقاييس جديدة…إلخ. وفى هذا المقام نشير إلى اهتمامه بالفقر الصاعد فى المدن والمقاطعات الأمريكية وأسبابه وكيفية معالجته. ثالثا: فى مجال التنمية: قدم أنجَس ديتون مراجعة للتنمية المطبقة وحاول أن يربط التنمية بإمكانية الوصول إلى الرفاه للمجتمعات المتنوعة مركزا على الصحة.
(5)
وحول البحث الذى حصل به ديتون على نوبل للاقتصاد حول العلاقة بين الاستهلاك والفقر والرفاه. فلقد انطلق من ثلاثة أسئلة كما يلى: أولا: كيف يوزع المستهلكون إنفاقهم بين السلع المختلفة؟.. وثانيا: كم ينفق المجتمع من دخله وكم يوفر؟.. وثالثا: كيف نجيد قياس وتحليل الرفاهية والفقر؟.. فما الجديد الذى طرح؟!. يقول ديتون: «إن إعداد سياسات اقتصادية تشجع على الرفاه وتقليص الفقر، يتطلب أولا فهم خيارات الاستهلاك الفردية». وأكثر من أى شخص آخر، أدخل آنجسديتون تحسينات على هذا المفهوم.
وأوضحت الأكاديمية الملكية للعلوم أن «بحوثه التى ربطت بين الخيارات المحددة للأفراد والنتائج الجماعية، ساهمت فى تحويل حقول الاقتصاد الجزئى والاقتصاد الجمعى واقتصاد التنمية».
ودفعته هذه الأسئلة إلى القيام بتحليل دقيق لمسائل مثل العلاقة بين الدخل وكمية السعرات الحرارية المستهلكة، وحجم التمييز بين الجنسين ضمن العائلة،… إلخ. وبالنتيجة، صياغة خطط الحد من الفقر فى العالم ومعرفة خيارات استهلاك الأفراد قبل وضع السياسة الاقتصادية وصولا إلى دعم الرفاهية…
(6)
القارئ لأبحاث ديتون سوف يجد أنه من الباحثين الذين يمكن تصنيفهم بأنهم «أصحاب رسالة». فهو لديه التزام نحو الفقراء ليس فى واقعه الغربى فقط وإنما نحو الفقراء فى العالم الأجمع. وهو ما عبّر عنه فى كلمته «نحن الذين وُلدنا محظوظين فى الدول الغنية، لدينا واجب معنوى فى تقليل الفقر فى العالم».. ويضاف إلى أنه بفضل أبحاثه التى تدخل فى التفاصيل ومحاولته تقديم حلول عملية لها، فإنه بات صاحب مدرسة معتبرة فى هذا المقام.. كم أتمنى أن نستضيف مثل هذه القامات لما لها من أهمية قصوى نفسرها لاحقا.. ونواصل.