(1)
مساء الأحد الماضى كنت أشاهد التليفزيون ليلا لمتابعة التقارير الميدانية حول الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية. وأعترف أن متابعتى لم تكن بحثا عن شىء غير متوقع، وإنما لتأكيد توقعنا حول ردة فعل المواطنين للانتخابات وقد سجلناه فى مقالات مبكرة. حيث نبهنا من انصراف المواطنين عن العملية الانتخابية. والتحذير من دعوة كل من ينتمى إلى بنى «القديم» الذى وصفناه بأنه «ينازع»، بضرورة إسقاط سنوات الفوضى ما بعد يناير 2011 من الذاكرة التاريخية. وهو ما حذرنا أنه يعنى إعادة إنتاج البيئة التى أدت إلى يناير 2011. وضمنا جعل من ينتمى إلى الجديدـ وقوامه الأساسى الشباب ـ فى حالة «صراع» ورفض أو انصراف عن المشهد الراهن.. ويكون لسان حاله ما الجديد؟
(2)
ولعل الملاحظة الأولية لمجريات العملية الانتخابية ـ والتى أتمنى أن أكون مخطئا فيها وأن تتغير مع الجولات الانتخابية التالية ـ هى أن الإقبال النسبى على الإدلاء بالتصويت تركز فى فئة كبار السن من الرجال والسيدات أو من ينتمون إلى كتل تصويتية تتبع دوائر الانتماء الأولية من جماعات ومؤسسات وأنصار تنتمى «للقديم». وإن هناك انصرافا، يكاد يكون، كاملا من الشباب الذين يمثلون 60% من الكتلة التصويتية.. ومع استخلاص هذه الملاحظة شعرت بأنه لا معنى لمواصلة المتابعة. فقررت أن أشاهد شيئا بعيدا عن السياسة. وما إن بدأت أنتقل بين المحطات وجدت الأخ العزيز عمرو الليثى مستضيفا فرقة «إسكندريللا». فلم أستطع أن أغير القناة وتابعت الحلقة حتى نهايتها.
(3)
ولعل ما شدنى لمشاهدتها، بالإضافة إلى حبى لها ومتابعة أعمالها على مدى سنوات الحراك الثورى، هو ما رأيته فى عيون أعضاء الفرقة من: غضب/وشجن/ورفض ناعم ونبيل. وهو ما كان يتجلى فى الغناء أو عند إلقاء الموهوب الشاب لشعره البسيط العميق العامى الحداثى «أحمد الحداد».. كما تجلى فى ردة فعل الإعلامى المحترف صاحب الخبرة الممتدة عمرو الليثى على ما يسمع فكان صمته وحزنه بليغا.. والواقع فإن مشاهدتى لفرقة إسكندريللا لم تكن ابتعادا عن الواقع السياسى الراهن. وإنما كانت حضورا فى قلب المشهد السياسى وربما تفسره من جانب آخر.
(4)
«دم الشهدا مش حيروح؛
مصر شباب طالبين حرية،
والحرية من الشهداء»…
ربما تكون هذه هى العبارات المفتاحية (شعر أمين حداد) التى تشرح الموقف كاملا دون تزويق، أو تجميل، أو تحويل للنظر(غلوشة)، أو فلسفة (فزلكة)،…، إلخ. وتطرح العديد من الأسئلة من عينة: ما معنى الانتخابات إذا لم تعبر عن مطالب الشهداء وتطلعاتهم؟ وما معنى التحالفات إذا كانت تحيزاتها(الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) تتناقض مع تحيزات الشهداء؟ وما معنى الحرية/الديمقراطية إن لم تستوعب مصر الشباب؟.. وظلت الفرقة مع المذيع وفى إطار تصاعد موسيقى يرددون العبارات السابقة ـ مع باقى نص القصيدة البديعة ـ حتى انتهت الحلقة.
(5)
تأثرت جدا. وخاصة أننى على المستويين البحثى والإنسانى متعاطف مع المسألة الشبابية بالتمام. وقد كتبت عديد الكتابات حول المسألة الشبابية فى مرحلة التحول، وأنهم يستحقون منا أن نتفهمهم بطريقة غير نمطية وبعيدا عن التحليلات المتواترة. فالبعض ممن ينتمون «للقديم» أو جيل الكبار عندما تتردد أمامهم الإشكاليات الشبابية «يتحسسون» كل ما يمكنهم من الهيمنة على الشباب. فالحجج جاهزة: غياب الولاء، افتقاد القدوة، وأخيرا الإلحاد،…، إلخ. وواقع الحال كلها حجج ثقيلة لأنها تضع المسؤولية على القديم. فعلى سبيل المثال، إذا كان مآل الشباب الإلحاد بعد كل ما صرف من مال وألقى من مواعظ دينية على مدى عقود. لأن المشكلة لا تكون عند الشباب وإنما عند أهل الدين.
(6)
يضاف إلى ما سبق أن هناك من يحاول أن يؤكد على أن المصريين قد انصرفوا عن السياسة وأنهم أنهكوا بسبب دورات الاحتجاج «الحراك» والتمرد فى يناير 2011 ويونيو 2013 ضد الاستبدادين: السياسى والدينى على التوالى. وظنى أن هذا غير صحيح وأنا من المؤمنين بأن هناك ما أصفه «بالحركية المجتمعية الجديدة» التى تتحرك بعيدا عن الأنساق النمطية المتعارف عليها والآليات التى اختبرتها مصر الرسمية قديما. وأن رؤاها تتبلور مع الوقت. وانصرافهم عن العملية الانتخابية فى تقديرى هو نوع من «التصويت السلبى»، إن جاز التعبير.. ليس عقابيا وإنما يعكس نوعا من التأكيد على ضرورة التغيير ولكن ليس باستعادة القديم مع قدر من التحسين.. تغيير فى الرؤية والسياسات ونوعية الاختيارات مع قدر من الجرأة والمغامرة.
(7)
وأختم بقصيدة «أحمد الحداد» ذات الوعى الحاد: «ساعات نحس إن البلد دى بلدنا/وساعات نخاف يتولدوا فيها ولادنا/ ساعات تزيد السجون/ وما يخلص الإجرام/ وساعات نربى الدقون/ ونقول حلال وحرام/ ساعات ناخدها بجد/ وساعات ناخدها هزار/ كام نكتة قلناها/ ويا دنيا ما ضحكتيش/ بشويش/ ضحكوا علينا وقالو الدنيا نضغ لبان/ كله يزقطط كله يتنح فى الإعلان/ لا بقينا مصريين/.. ولا حتى أمريكان/ وعمو سوبرمان يلعب فى أكل العيش/ بشويش…».
علينا أن نتفهم أسباب التصويت السلبى، ونقدم ما من شأنه أن يجعل الشباب آمنا فى وطنه، ومن بناته،.. ونواصل…