(1)
نواصل القراءة فى كتاب الدكتور سيد ضيف الله: «صورة الشعب بين الشاعر والرئيس ـ الكتب خان 2015»، التى تدرس خطاب فؤاد حداد الشعرى والخطابات السياسية لرؤساء مصر: ناصر، والسادات، ومبارك. حيث تتبع الباحث إبداعات حداد الشعرية ورؤيته للمواطنين/ الجماهير/ الشعب، وفى المقابل مضمون الخطابات السياسية لرؤساء مصر الثلاثة ورؤيتهم للوطن والمواطنين.. فى الحلقات الماضية: عرضنا أولا: رؤية الباحث ومنهجه وأهمية الموضوع وتعدد مستويات البحث التى أضفت متعة وجدية عليه. وأهمية وبراعة اختيار فؤاد حداد (الحلقة الأولى) وثانيا: دراسة التطور السياسى لمصر عبر تحولات النظام السياسى عبر ثلاثة رؤساء من خلال الخطابات السياسية لهؤلاء الرؤساء، وتحليل التدفق الشعرى المبدع لفؤاد حداد والمرتبط ارتباطا وثيقا بالتحولات السياسية المتنوعة والمتعاقبة. والتى كانت تعبر عن استجابة المبدع لما يدور
فى الوطن وللمواطنين ولخطابات الرؤساء المتعاقبين. وفى هذا المقام درسنا إبداعات فؤاد حداد فى مرحلتى ناصر والسادات (الحلقتان الثانية والثالثة). ونعرض اليوم لفترة مبارك.. فماذا عنها؟
(2)
بداية، يلفت الدكتور سيد ضيف الله النظر إلى أن فؤاد حداد قد كتب ثلثى أعماله فى الخمس سنوات الأخيرة من عمره (1980 ـ 1985). من دواوين هذه الفترة نذكر: «أيام العجب والموت، مواويل من أول الدنيا، والعيار الفالت، وريان يا فجل، وطيوف الجنة والكوثر على الطريق الرمضانى، ويوميات العمر الثانى، و…، إلخ».. والمفارقة التى يرصدها بذكاء شديد، سيد ضيف الله، أن شعر حداد خلال هذه الفترة والذى يمثل غالبية إبداع الشاعر قد تميز بالعمق والاستنفار الشديد تجاه ما طال مصر من تراجع فى كثير من المجالات، فيقول: «إذ يمكن القول إن حداد قد اختزن من الأسباب فى السياق الساداتى ما يجعله يفجر بداخله طاقاته الشعرية الصارخة بجروحه القومية والوطنية التى أصابت تصوراته الاستعارية للأمة وللشعب المصرى العربى وللشعوب العربية عامة، لكن الإحساس باقتراب الموت.. ومأساوية الأحداث التى ألمت بجسد الأمة العربية.. وبالشخصية المصرية، قد رسخ لديه الشعور بأنه فى حالة سباق مع الموت، ومن ثم فهى كتابة شاعر يحتضر فى صمت، لكنه يكتب ليبقى تصوره الاستعارى عن الشعب والأمة حيا يقاوم كل ما أحاط به من أسباب للموت والانهيار».. ونؤكد هنا أن ما أصاب فؤاد حداد قد أصاب العديد من شعراء هذا الزمن الذين كانوا بشعرهم يعلنون رفضهم لما آلت إليه الأحوال ويقاومون السياسات التى سادت. فقالوا كلمتهم ورحلوا.. ما دفع لويس عوض يقول تعليقا على رحيل صلاح عبدالصبور وأمل دنقل وفؤاد حداد وصلاح جاهين ما يلى: «كل ذلك المجد انتهى فى السنوات الخمس الأخيرة. وكلهم ماتوا فى أواسط العمر.. ومجتمع يجمع شعراؤه الفحول على الموت الباكر مجتمع ينبغى أن يحاسب نفسه»..
(3)
وظنى أن ما جرى لهؤلاء الشعراء لا ينفصل عن إحساسهم المرهف الذى أدرك أن تحولا كبيرا مضادا قد جرى فى مصر تجلى فى ثلاثة أمور كما يلى: أولا: نظرة الرئاسة للشعب. ثانيا: التبشير بالاستقرار الذى باسمه جرى ما جرى فى مصر.. ونقرأ خطابات مبارك فى مناسبات مهمة: عيد العمال وذكرى ثورة يوليو، فنجده من جانب، يتحدث عن الشعب الذى باتت: «بطنه واسعة، وانفعاليا، وعالة، والكثير الإنجاب،…،إلخ». ومن جانب آخر، تأكيده على الاستقرار الذى بموجبه على الشعب القبول بالإجراءات الاقتصادية الصارمة. وإلا فإن هذا يعنى أنه سيكون ـ أى الشعب ـ عائقا أمام خطط التنمية. ثالثا: التبعية الواضحة من خلال تبرير القبول بالقروض والمعونات والتماس التعاطف الدولى.. فى هذا السياق ماذا أبدع فؤاد حداد؟
(4)
الحياة دى تشبه الموت دا؛ كان هذا عنوان إحدى قصائد ديوان: «أيام العجب والموت»، حيث يقول فيها: «انسحبت فى حلم صباحى/ والقمر زى اللى كان صاحى/القمر زى اللى كان نعسان/ارتعش من صمتى وصياحى/ كل شىء فيه شىء من الإنسان/.. كل شىء فيه شىء من الأوثان/.. كل شىء فيه شىء من الظالم/ كل شىء فيه شىء من المظلوم».. هكذا يواصل المقاومة والتمرد على خطابات الرؤساء بعد ناصر الذى انحاز للشعب وانحاز معه حداد.. فالاستقرار وفرض التصور السلطوى باعتباره عنوان الحقيقة يقابل بتجسيد وتعميق التناقضات، لأن التناقض هو جوهر الحياة.. فما تقدم وأقلقه فى خطاب السادات استمر فى خطاب من خلفه.. ما أدى به إلى أن يقول: «ولما تبادلنا أدوارنا أصبحت الأراجوز لستَ أم لستَ الأراجوز/يا ابن الفصيحة لا تجنن أخاك/لا كل شىء حين يغمض يرنو ولا كل شىء يبقى/ العمارات احتلت مكان السِيَم/بيت الخبرة يعلن فى المكبرات المعدنية: نحن نحول المصريين من غرباء إلى سياح…
(5)
وبعد، نصل إلى نهاية إبحارنا فى عمل متميز لباحث شاب هو الدكتور سيد ضيف الله الذى يفتح لنا بكتابه (رسالته للدكتوراه) أبوابا لدراسة غير نمطية تدمج بين الأدب والسياسة والتاريخ والثقافة. كما تثير الكثير من الفضول البحثى لفهم حقيقى غير زائف لما جرى فى مصر من تحولات مجتمعية، وللعلاقة بين المثقفين/ المبدعين والسلطة، وللنجاحات والإخفاقات السياسية من جهة والإبداعات المصرية من جهة مقابلة.. ونواصل..