(1)
جمال الغيطانى.. رواية مصرية مركبة بامتياز. رواية ممتدة وخالدة. مسكون بمصر. ومصر عبر عصورها باتت «تحل وتتجسد فيه».. شعور دائم تملكنى منذ التقيته أول مرة فى التسعينيات ولم يتغير قط. وكان هذا الشعور لا يتأكد ـ فقط ـ مع كل لقاء بيننا، بل أجده يقترب من اليقين. ذلك لأن الغيطانى كان دائم البحث عن مزيد من التوحد بمصر راغبا فى إنجاز «تمام إدراكها». ذلك لأنها ثرية بالأفكار والأسرار والخبرات والإنجازات. وكان له ذلك. فإبداعاته تقول إن «عشقه الدؤوب لمصر بعصورها» قد منحه الكثير: الفهم والإشراق والإبداع.. فلقد ائتمنته «أم الدنيا» على أسرارها ومكنوناتها، فاختصته «بالبوح»، وبأن تكشف له عن كل ما هو مطمور وخفى. ولم لا وقد رأت فيه «الحارس الأمين عليها وعلى نضال المصريين عبر العصور».
(2)
لذا جسد أدب الغيطانى تقاطعات عديدة بين الزمان الممتد والمنفتح على كل العصور، والمكان بكل تفاصيله اللونية والزخرفية والهندسية والمعمارية. وبين استلهام التراث المصرى المتعدد العناصر بتجلياته: الفرعونية والإسلامية النصية والصوفية، كذلك الأدب الشعبى وإبداعات المبدعين فى كل مكان فى الشرق والغرب.. وظنى أن «حكايات هائمة» (إصدار 2015) تمثل ذروة نصية أدبية رائعة تجسد الحالة الإبداعية التى وصل إليها الغيطانى، حيث «ينسج نصا متعدد مستويات القراءة». فلقد أهداها لى إحدى ليالى رمضان الأخيرة عندما أسعدنى بقبول دعوتى للسحور بالمنزل، فى وجود الأخ الكبير المثقف والمؤرخ الدكتور خالد زيادة السفير اللبنانى فى مصر، وصديق العمر المفكر الكبير الأستاذ نبيل عبدالفتاح والأديبة الروائية والشاعرة المتميزة ميسون صقر. ومنذ ذلك الوقت وأنا منكب على قراءتها بعناية شديدة. وأذكر هنا أن أول معرفتى بأدب الغيطانى كان نهاية السبعينيات من خلال عمله الرائد: «أوراق شاب عاش منذ ألف عام».. ثم قصة صغيرة كانت مطبوعة بطريقة التصوير آنذاك ـ لا أذكر اسمها ـ ولكنها كانت تتحدث عن أحد جنود الحراسات الخاصة الفقير الذى يقوم بالحراسة فى مكان فاخر ما يثير لديه الكثير من النزاعات الداخلية. وقد أثرت فىّ هذه القصة تأثيرا كبيرا لأنها تنم عن قدرة خارقة فى التقاط المهمشين والغائبين عن الحساب. وبالمناسبة لم يمض وقت كبير إلا وقامت مظاهرات جنود الأمن المركزى فى سنة 1986.
(3)
حكايات هائمة؛ نص شغله الغيطانى بعناية كبيرة: شكلا ومضمونا. حاول أن يستخلص فيه «خلاصة خلاصاته الإنسانية والحياتية»؛ انطلاقا من الواقع.. فالقارئ للنص يطارده بيت الشعر الذى وضعه منفردا فى صفحة من صفحات الحكايات لعروة بن الورد، يقول فيه:
فما شاب رأسى من سنين تتابعت طوال ولكن شيبته الوقائع.
إنها نصوص لها أصل.. نصوص حية ينسجها الغيطانى من واقع مشاهداته وتنقلاته وعمله وأعماله وعلاقاته وخبراته الثرية وحياته الممتدة ـ بإذن الله ـ والمبدعة. ويزخرفها الغيطانى ويحشوها «بخلاصة» أخرى من «خلاصات» أجمل نصوص «الخبرة الإنسانية الجميلة والحكمة الكونية الجليلة».. وما المشيب إلا «الخلاصة» عند جمال الغيطانى. ولقد كان من الكرم والإيثار أن يفرحنا ويشركنا معه فيما «استخلصه»، وهو أمر يستحق التقدير والاحترام.. وفى هذا المقام نذكر بعمله الهام الذى ينتمى لنفس النوعية من الكتابة والذى قرأته حين صدر واستمتعت به جدا ألا وهو: «دفاتر التدوين» السبعة.. وقبل ذلك التجليات بأسفارها الثلاثة ومقاماتها وأحوالها.
(4)
فى تلك الليلة التى التقينا فيها على السحور. كان الغيطانى أشبه «بالمسحور» بمصر وتاريخها. وأظن كل الحاضرين كانوا مسحورين ومأخوذين بما يحكى. فلقد كان على سجيته حيث انطلق يحكى ويسرد عنها كل ما هو جميل من جواهر تاريخية ومعاصرة. كان أشبه بمن نسج «بساط ريح» ودعانا معه إلى رحلة عبر الحقب وإلى الأماكن. كان سعيدا وهو يطوف بنا عبر الحقب وإلى الأماكن سواء القاهرية أو المترامية الأطراف فى مصر وخارجها. صوته متهلل وهو يقوم بفك شفرات جولات الرحلة.. فى هذه الليلة وعدنا أن ينظم لنا جولات ميدانية للقاهرة القديمة/التاريخية. ولأن عهدى به أنه لم يخلف وعدا. فإننا على ثقة أنك «تختلس قدرا من الكرى»: تقوم بعده لتبدع من جديد.. وسيكون لسان حالنا كما كان لسان حالك دوما قول الحلاج: «يا معين الضنى علىّ، أعنّى على الضنى.
(5)
فمصر التى ائتمنتك فى حاجة إلى حراسها الأمناء المبدعين فى لحظة حرجة من تاريخها.. الحراس من عينة «تحوتى» الذين يخترعون «الحروف والكلمات»، و»يسطرون نصوصا إبداعية نورانية تشرق على البشرية وتفتح عليهم وتلهمهم وتعينهم».. وتشهد ترجمة أعمال الغيطانى إلى اللغات العالمية على أن نصوصه بالفعل قد «مُست» بعبقرية تحوتى، وأنه من سلالته يقينا،.. ولأنه دوما يبحث عن الحقيقة وينقب فى عمق مصر عبر العصور فإن إيزيس سوف تمنحك الهواء ليملأ رئتيك وتقوم لتستكمل دورك الإبداعى والإنسانى.. ونواصل.